بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة المؤلف
مقام عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة؛ فهم حملة الشريعة وعلومها
التي يبثُّونها في صدور الرجال بالتلقين والتأليف، ذَبُّوا عن الشريعة
بسيوف علومهم؛ فبقيت علومهم خالدة تالدة إلى الأبد، وكم من ولي لله كان
معهم وبعدهم بكثير، كان لهم تلاميذ وأوراد، وانقطعت تلك الأوراد وباد
المريدون بمرور الأزمان، وأئمة العلم ما زالوا بعلومهم كأنهم أحياء.." هذا
الكلام النفيس من بيان أبي عبد الله محمد الأمين في كتابه "المجد الطارف
والتالد"، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره الرفيع بين علماء الإسلام،
وليس في كلام الشيخ مبالغة أو تزويد؛ فقد حقق القاضي عياض شهرة واسعة حتى
قيل: لولا عياض لما عُرف المغرب، وكأنهم يعنون –في جملة ما يعنون- أنه أول
من لفت نظر علماء المشرق إلى علماء المغرب حتى أواسط القرن السادس الهجري.
المولد والنشأة
يعود نسب القاضي "عياض بن موسى اليحصبي" إلى إحدى قبائل اليمن العربية
القحطانية، وكان أسلافه قد نزلوا مدينة "بسطة" الأندلسية من نواحي "غرناطة"
واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة "فاس" المغربية، ثم غادرها جده
"عمرون" إلى مدينة "سبتة" حوالي سنة (373 هـ = 893م)، واشتهرت أسرته
بـ"سبتة"؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه المدينة مولد عياض في
(15 من شعبان 476هـ = 28 من ديسمبر 1083م)، ونشأ بها وتعلم، وتتلمذ على
شيوخها.
الرحلة في طلب العلم
رحل عياض إلى الأندلس سنة (507هـ = 1113م) طلبًا لسماع الحديث وتحقيق
الروايات، وطاف بحواضر الأندلس التي كانت تفخر بشيوخها وأعلامها في الفقه
والحديث؛ فنزل قرطبة أول ما نزل، وأخذ عن شيوخها المعروفين كـ"ابن عتاب"،
و"ابن الحاج"، و"ابن رشد"، و"أبي الحسين بن سراج" وغيرهم، ثم رحل إلى
"مرسية" سنة (508هـ = 1114م)، والتقى بأبي علي الحسين بن محمد الصدفي، وكان
حافظًا متقنًا حجة في عصره، فلازمه، وسمع عليه الصحيحين البخاري ومسلم،
وأجازه بجميع مروياته.
اكتفى عياض بما حصله في رحلته إلى الأندلس، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق
مثلما يفعل غيره من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية
في الأندلس وظهور عدد كبير من علمائها في ميادين الثقافة العربية
والإسلامية، يناظرون في سعة علمهم ونبوغهم علماء المشرق المعروفين.
عاد عياض إلى "سبتة" غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار،
والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، وكانت عودته في (7 من جمادى الآخرة
508هـ = 9 من أكتوبر 1114م)، وجلس للتدريس وهو في الثانية والثلاثين من
عمره، ثم تقلد منصب القضاء في "سبتة" سنة (515 هـ = 1121م) وظل في منصبه
ستة عشر عامًا، كان موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ثم تولى قضاء "غرناطة"
سنة (531هـ = 1136م) وأقام بها مدة، ثم عاد إلى "سبتة" مرة أخرى ليتولى
قضاءها سنة (539هـ = 1144م).
القاضي عياض محدثًا
كانت حياة القاضي عياض موزعة بين القضاء والإقراء والتأليف، غير أن الذي
أذاع شهرته، وخلَّد ذكره هو مصنفاته التي بوَّأَتْه مكانة رفيعة بين كبار
الأئمة في تاريخ الإسلام، وحسبك مؤلفاته التي تشهد على سعة العلم وإتقان
الحفظ، وجودة الفكر، والتبحر في فنون مختلفة من العلم.
وكان القاضي عياض في علم الحديث الفذَّ في الحفظ والرواية والدراية، العارف
بطرقه، الحافظ لرجاله، البصير بحالهم؛ ولكي ينال هذه المكانة المرموقة كان
سعيه الحثيث في سماع الحديث من رجاله المعروفين والرحلة في طلبه، حتى تحقق
له من علو الإسناد والضبط والإتقان ما لم يتحقق إلا للجهابذة من
المحدِّثين، وكان منهج عياض في الرواية يقوم على التحقيق والتدقيق وتوثيق
المتن، وهو يعد النقل والرواية الأصل في إثبات صحة الحديث، وتشدد في قضية
النقد لمتن الحديث ولفظه، وتأويل لفظه أو روايته بالمعنى، وما يجره ذلك من
أبواب الخلاف.
وطالب المحدث أن ينقل الحديث مثلما سمعه ورواه، وأنه إذا انتقد ما سمعه
فإنه يجب عليه إيراد ما سمعه مع التنبيه على ما فيه؛ أي أنه يروي الحديث
كما سمعه مع بيان ما يَعِنُّ له من تصويب فيه، دون قطع برأي يؤدي إلى
الجرأة على الحديث، ويفتح بابًا للتهجم قد يحمل صاحبه على التعبير والتصرف
في الحديث بالرأي.
وألَّف القاضي في شرح الحديث ثلاثة كتب هي: "مشارق الأنوار على صحاح
الآثار" وهو من أدَلِّ الكتب على سعة ثقافة عياض في علم الحديث وقدرته على
الضبط والفهم، والتنبيه على مواطن الخطأ والوهم والزلل والتصحيف، وقد ضبط
عياض في هذا الكتاب ما التبس أو أشكل من ألفاظ الحديث الذي ورد في الصحيحين
وموطأ مالك، وشرح ما غمض في الكتب الثلاثة من ألفاظ، وحرَّر ما وقع فيه
الاختلاف، أو تصرف فيه الرواة بالخطأ والتوهم في السند والمتن، ثم رتَّب
هذه الكلمات التي عرض لها على ترتيب حروف المعجم.
أما الكتابان الآخران فهما "إكمال المعلم" شرح فيه صحيح مسلم، و"بغية الرائد لما في حديث أم زرع من الفوائد".
وله في علم الحديث كتاب عظيم هو " الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع"
... فقيهًا
درس القاضي عياض على شيوخه بـ"سبتة" المدونة لابن سحنون، وهو مؤلَّف يدور
عليه الفقه المالكي، ويُعَدُّ مرجعَهُ الأول بلا منازع، وقد كُتبت عليه
الشروح والمختصرات والحواشي، غير أن المدونة لم تكن حسنة التبويب؛ حيث
تتداخل فيها المسائل المختلفة في الباب الواحد، وتعاني من عدم إحكام وضع
الآثار مع المسائل الفقهية.
وقد لاحظ القاضي عياض هذا عند دراسته "المدونة" على أكثر من شيخ؛ فنهض إلى
عمل عظيم، فحرَّر رواياتها، وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك
في كتابه "التنبيهات المستنبَطة على الكتب المدونة والمختلطة" ولا شكَّ أن
قيام القاضي عياض بمثل هذا العمل يُعد خطوة مهمة في سبيل ضبط المذهب
المالكي وازدهاره.
القاضي عياض مؤرخًا
ودخل القاضي ميدان التاريخ من باب الفقه والحديث، فألَّف كتابه المعروف "
تدريب المدارك"، وهو يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي
ورواة "الموطأ" وعلمائه، وقد استهلَّ الكتاب ببيان فضل علم أهل المدينة،
ودافع عن نظرية المالكية في الأخذ بعمل أهل المدينة، باعتباره عندهم من
أصول التشريع، وحاول ترجيح مذهبه على سائر المذاهب، ثم شرع في الترجمة
للإمام مالك وأصحابه وتلاميذه، وهو يعتمد في كتابه على نظام الطبقات دون
اعتبار للترتيب الألفبائي؛ حيث أورد بعد ترجمة الإمام مالك ترجمة أصحابه،
ثم أتباعهم طبقة طبقة حتى وصل إلى شيوخه الذين عاصرهم وتلقى على أيديهم.
والتزم في طبقاته التوزيع الجغرافي لمن يترجم لهم، وخصص لكل بلد عنوانًا
يدرج تحته علماءه من المالكية؛ فخصص للمدينة ومصر والشام والعراق عناوين
خاصة بها، وإن كان ملتزما بنظام الطبقات.
وأفرد لعلمائه وشيوخه الذين التقى بهم في رحلته كتابه المعروف باسم
"الغُنية"، ترجم لهم فيه، وتناول حياتهم ومؤلفاتهم وما لهم من مكانة ومنزله
وتأثير، كما أفرد مكانا لشيخه القاضي أبي على الحسين الصدفي في كتابه
"المعجم" تعرض فيه لشيخه وأخباره وشيوخه، وكان "الصدفي" عالمًا عظيما اتسعت
مروياته، وصار حلقة وصل بين سلاسل الإسناد لعلماء المشرق والمغرب؛ لكثرة
ما قابل من العلماء، وروى عنهم، واستُجيز منهم.
... أديبًا
وكان القاضي أديبًا كبيرًا إلى جانب كونه محدثًا فقيهًا، له بيان قوي
وأسلوب بليغ، يشف عن ثقافة لغوية متمكنة وبصر بالعربية وفنونها، ولم يكن
ذلك غريبًا عليه؛ فقد كان حريصًا على دراسة كتب اللغة والأدب حرصه على تلقي
الحديث والفقه، فقرأ أمهات كتب الأدب، ورواها بالإسناد عن شيوخه مثلما فعل
مع كتب الحديث والآثار، فدرس "الكامل" للمبرد و"أدب الكاتب" لابن قتيبة،
و"إصلاح المنطق" لابن السكيت، و"ديوان الحماسة"، و"الأمالي" لأبي علي
القالي.
وكان لهذه الدراسة أثرها فيما كتب وأنشأ، وطبعت أسلوبه بجمال اللفظ، وإحكام العبارة، وقوة السبك، ودقة التعبير.
وللقاضي شعر دوَّنته الكتب التي ترجمت له، ويدور حول النسيب والتشوق إلى
زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، والمعروف أن حياته العلمية وانشغاله
بالقضاء صرفه عن أداء فريضة الحج، ومن شعره الذي يعبر عن شوقه ولوعته
الوجدانية ولهفته إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم):
بشراك بشراك فقد لاحت قبابهم
فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار
هذا المحصب، هذا الخيف خيف منى
هذي منازلهم هذي هي الدار
هذا الذي وخذت شوقًا له الإبل
هذا الحبيب الذي ما منه لي بدل
هذا الذي ما رأتْ عين ولا سمعت
أذْنٌ بأكرمَ من كَفِّهِ إن سألوا
ولا يمكن لأحد أن يغفل كتابه العظيم "الشفا بأحوال المصطفى" الذي تناول فيه
سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقصد من كتابه إحاطة الذات النبوية بكل
ما يليق بها من العصمة والتفرد والتميز عن سائر البشر، في الوقت الذي كانت
فيه آراء جانحة تخوض في مسألة النبوة، وتسوِّي بين العقل والوحي. ولما كان
النص الشرعي مصدرًا أساسيًا للمعرفة وأصلا لا يحتمل النزاع فيه متى ثبت
بالسند الصحيح، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) مصدر هذه المعرفة، فقد
انبرى القاضي عياض ببيان مقام النبوة وصيانته من كل ما لا يليق به.
وفاته
عاش القاضي عياض الشطر الأكبر من حياته في ظل دولة "المرابطين"، التي كانت
تدعم المذهب المالكي، وتكرم علماءه، وتوليهم مناصب القيادة والتوجيه، فلما
حلَّ بها الضعف ودبَّ فيها الوهن ظهرت دولة "الموحدين"، وقامت على أنقاض
المرابطين، وكانت دولة تقوم على أساس دعوة دينية، وتهدف إلى تحرير الفكر من
جمود الفقهاء والعودة إلى القرآن والسنة بدلاً من الانشغال بالفروع
الفقهية، وكان من الطبيعي أن يصطدم القاضي عياض -بتكوينه الثقافي ومذهبه
الفقهي- مع الدولة القادمة، بل قاد أهل "سبتة" للثورة عليها، لكنها لم
تفلح، واضطر القاضي أن يبايع زعيم "الموحدين" عبد المؤمن بن علي الكومي.
ولم تطُلْ به الحياة في عهد "الموحدين"، فتوفي في (9 من جمادى الآخرة 544 هـ = 14 من أكتوبر 1149م)
من مصادر الدراسة:
• ابن بشكوال: كتاب الصلة ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة ـ 1966م.
• القاضي عياض: ترتيب المدارك ـ تحقيق أحمد بكير محمود ـ مكتبة الحياة ـ بيروت ـ بدون تاريخ.
محمد الكتاني: القاضي عياض، الشخصية والدور الثقافي ـ مجلة الدارة ـ العدد الرابع ـ السنة السادسة عشر ـ 1411.
مقدمة الكتاب
اللهم صل على سيدنا محمد و آله و سلم .
قال الفقيه القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي
رضي الله عنه : الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى ، المختص بالملك الأعز
الأحمى ، الذي ليس دونه منتهى ، و لا وراءه مرمى ، الظاهر لا تخيلا و وهما ،
الباطن تقدسا لا عدماً ، وسع كل شيء رحمةً و علماً ، و أسبغ على أوليائه
نعما عماً ، و بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عرباً و عجماً ، و أزكاهم محتداً و
منمى ، و أرجحهم عقلاً و حلماً ، و أوفرهم علماً و فهماً ، و أقواهم
يقيناً و عزماً ، و أشدهم بهم رأفة و رحمى ، و زكاه روحاً و جسماً ، وحاشاه
عيباً و وصماً ، و آتاه حكمة و حكماً ، و فتح به أعيناً عمياً ، و قلوباً
غلفاً ، و آذاناً صماً ، فآمن به و عزره ، و نصره من جعل الله له في مغنم
السعادة قسماً ، و كذب به و صدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً ، و
من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى . صلى الله عليه وسلم صلاةً تنمو و
تنمى ، و على آله و سلم تسليماً كثيراً .
أما بعد أشرق الله قلبي و قلبك بأنوار اليقين ، و لطف لي و لك بما لطف
لأوليائه المتقين ، الذين شرفه م الله بنزل قدسه ، و أوحشهم من الخليقة
بأنسه ، و خصهم من معرفته و مشاهدة [ 2 ] عجائب ملكوته و آثار قدرته بما
ملأ قلوبهم حبرة ، و وله عقولهم في عظمته حيرة ، فجعلوا همهم به واحداً ، و
لم يروا في الدارين غيره مشاهدا ، فهم بمشاهدة جماله و جلاله يتنعمون ، و
بين آثار قدرته و عجائب عظمته يترددون ، و بالإنقطاع إليه و التوكل عليه
يتعززون ، لهجين بصادق قوله : قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( سورة
الأنعام / 6 : آية 91 ) .
فإنك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة
والسلام ، و ما يجب له من توقير و إكرام ، و ما حكم من لم يوف واجب عظيم
ذلك القدر ، أو قصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر ، و أن أجمع لك ما
لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال ، و أبينه بتنزيل صور و أمثال .
فاعلم _ أكرمك الله _ أنك حملتني من ذلك أمراً إمراً ، و أرهقتني فيما
ندبتني إليه عسراً ، و أرقيتني بما كلفتني مرتقى صعباً ، ملأ قلبي رعباً ،
فإن الكلام في ذلك يستدعي تقرير أصول و تحرير فصول ، و الكشف عن غوامض و
دقائق من علم الحقائق ، مما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم ويضاف إليه ، أو
يمتنع أو يجوز عليه ، و معرفة النبي و الرسول ، و الرسالة و النبوة ، و
المحبة و الخلة ، و خصائص هذه الدرجة العلية ، و ها هنا مهامه فيح تحار
فيها القطا ، و تقصر بها الخطا ، و مجاهل تضل فيها الأحلام إن لم تهتد بعلم
علم و نظر سديد ، و مداحض تزل[3] بها الأقدام ،إن لم تعتمد على توفيق من
الله وتأييد .
لكني لما رجوته لي و لك في هذا السؤال و الجواب من نوال و ثواب ، بتعريف
قدره الجسيم ، و خلقه العظيم ، و بيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق ،
و ما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق ، ليستيقن الذين
أوتوا الكتاب ، و يزداد الذين آمنوا إيماناً ، و لما أخذ الله تعالى على
الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس و لا يكتمونه .
و لما حدثنا به أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، قال : حدثنا
الحسين ابن محمد ، حدثنا أبو عمر النمري حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن ،
حدثنا أبو بكر محمد ابن بكر ، حدثنا سليمان بن الأشعث ، حدثنا موسى بن
اسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا علي بن الحكم ، عن عطاء ، عن أبي هريرة رضي
الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سئل عن علم فكتمه ألجمه
الله بلجام من نار يوم القيامة .
فبادرت إلى نكت مسفرة عن وجه الغرض ، مؤدياً من ذلك الحق المفترض ، اختلسها
على استعجال ، لما المرء بصدده من شغل البدن و البال ، بما طوقه من مقاليد
المحنة التي ابتلى بها ، فكادت تشغل عن كل فرض و نفل ، و ترد بعد حسن
التقويم إلى أسفل سفل ، و لو أراد الله بالإنسان خيراً لجعل شغله و همه كله
فيما يحمد غداً أو يذم محله ، فليس ثم سوى حضرة النعيم ، أو عذاب الجحيم ،
و لكان عليه بخويصته ، و استنفاذ مهجته و عمل صالح يستزيده ، و علم نافع
يفيده أو يستفيده .
جبر الله صدع قلوبنا ، و غفر عظيم ذنوبنا ، و جعل جميع [ 3 ] استعدادنا
لمعادنا ، و توفر دواعينا فيما ينجينا و يقربنا إليه زلفة ، و يحظينا بمنه و
كرمه و رحمته .
و لما نويت تقريبه ، و درجت تبويبه ، و مهدت تأصيله ، و خلصت تفصيله ، و
انتحيت حصره و تحصيله ، ترجمته ب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، و حصرت
الكلام فيه في أقسام أربعة :
القسم الأول : في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاً و فعلاً ، و توجه الكلام فيه في أربعة أبواب :
الباب الأول : في ثنائه تعالى عليه ، و اظهاره عظيم قدره لديه ، و فيه عشرة فصول .
الباب الثاني : في تكميله تعال ى له المحاسن خلقاً و خلقاً ، قرانه جميع
الفضائل الدينية و الدنيوية فيه نسقاً ، و فيه سبعة و عشرون فصلاً .
الباب الثالث : فيما ورد من صحيح الأخبار و مشهورها [ 4 ] بعظيم قدره عند
ربه و منزلته ، و ما خصه به في الدارين من كرامته ، و فيه اثنا عشر فصلاً .
الباب الرابع : فيما أظهره الله تعالى على يديه من الآيات و المعجزات ، و شرفه به من الخصائص و الكرامات ، و فيه ثلاثون فصـل .
القسم الثاني : فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام ، و يترتب القول فيه في أربعة أبواب :
الباب الأول : في فرض الإيمان به و وجوب طاعته و اتباع سنته ، و فيه خمسة فصول .
الباب الثاني : في لزوم محبته و منا صحته ، و فيه ستة فصول .
الباب الثالث : في تعظيم أمره و لزوم توقيره و بره ، و فيه سبعة فصول .
الباب الرابع : في حكم الصلاة عليه و التسليم و فرض ذلك و فضيلته ، و فيه عشرة فصول .
القسم الثالث : ـ فيما يستحيل في حقه ، و ما يجوز عليه شرعاً ، و ما يمتنع و يصح من الأمور البشرية أن يضاف إليه .
و هذا القسم ـ أكرمك الله ـ هو سر الكتاب ، و لباب ثمرة هذه الأبواب ، و ما
قبله له كالقواعد و التمهيدات و الدلائل على ما ن ورده فيه من النكت
البينات ، و هو الحاكم على ما بعده ، و المنجز من غرض هذا التأليف و عده ، و
عند التقصي لموعدته ، و التفصي عن عهدته ، يشرق صدر العدو اللعين ، و يشرق
قلب المؤمن باليقين ، و تملأ أنواره جوانح صدره و يقدر العاقل النبي حق
قدره . و يتحرر الكلام فيه في بابين [5 ] :
الباب الأول : فيما يختص بالأمور الدينية ، و يتشبث به القول في العصمة و فيه ستة عشر فصلاً .
الباب الثاني : في أحواله الدنيوية ، و ما يجوز طروءه عليه من الأعراض البشرية،و فيه تسعة فصول.
القسم الرابع : في تصرف وجوه الأحكام على من تنقصه أو سبه صلى الله عليه و سلم و ينقسم الكلام فيه في بابين :
الباب الأول : في بيان ما هو في حقه سب و نقص ، من تعريض ، أو نص ، و فيه عشرة فصول .
الباب الثاني : في حكم شانئه و مؤذيه و متنقصه و عقوبته ، و ذكر استتابته ، و الصلاة عليه و وراثته ، و فهي عشرة فصول .
و ختمناه بباب ثالث جعلناه تكملة لهذه المسألة [ 5 ] ، و وصلة للبابين
اللذين قبله في حكم من سب الله تعالى و رسله و ملائكته و كتبه ، و آل النبي
رسول الله صلى الله عليه وسلم و صحبه .
و اختصر الكلام فيه في خمسة فصول ، و بتمامها ينتجز الكتاب ، و تتم الأقسام
و الأبواب ، و تلوح في غرة الإيمان لمعة منيرة ، و في تاج التراجم درة
خطيرة ، تزيح كل لبس ، و توضح كل تخمين و حدس ، و تشفي صدور قوم مؤمنين ، و
تصدع بالحق ، و تعرض عن الجاهلين ، و با لله تعالى ـ لا إله سواه ـ أستعين
.
القسم الأول
في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاًو فعلاً
قال [ الفقيه ] القاضي الإمام أبو الفضل رضي الله عنه :
لا خفاء على من مارس شيئاً من العلم ، أو خص بأدنى لمحة من فهم ، بتعظيم
الله تعالى قدر نبينا عليه [ الصلاة و ] السلام ، و خصوصه إياه بفضائل و
محاسن و مناقب لا تنضبط لزمام ، و تنويهه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة
و الأقلام .
فمنها ما صرح به الله تعالى في كتابه ، و نبه به على جليل نصابه ، و أثنى
عليه من أخلاقه و أدابه ، و حض العباد على التزامه ، و تقلد إيجابه ، فكان
جل جلاله هو الذي تفضل و أولى ، ثم طهر و زكى ، ثم مدح بذلك و أثنى ، ثم
أثاب عليه الجزاء الأوفى ، فله الفضل بدءاً [ 6 ] و عودا ً ، و الحمد أولى و
أخرى .
ومنها ماأبرزه للعيان من خلقه على أتم وجوه الكمال و الجلال ، و تخصيصه
بالمحاسن الجميلة و الأخلاق الحميدة ، و المذاهب الكريمة ، و الفضائل
العديدة ، و تأييده بالمعجزات الباهرة ، و البراهين الواضحة ، و الكرامات
البينة التي شاهدها من عاصره و رآها من أدركه ، و علمها علم يقين من جاء
بعده ، حتى انتهى علم ذلك إلينا ، و فاضت أنواره علينا ، صلى الله عليه
وسلم كثيراً .
حدثنا القاضي الشهيد أبو علي الحسين بن محمد الحافظ ، رحمه الله قراءة منى
عليه ، قال : أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ، و أبو الفضل أحمد بن
خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، قال : حدثنا أبو علي السنجي ،
قال : محمد بن أحمد ابن محبوب ، قال : حدثنا أبو عيسى بن سورة الحافظ ، قال
: حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن
أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسري به ملجماً
مسرجاً، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد
أكرم على الله منه . قال : فارفض عرقاً .
الباب الأول : في ثناء الله تعالى عليه و إظهاره عظيم قدره لديه
اعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى ، و عد
محاسنه ، و تعظيم أمره ، و تنويه قدره ، اعتمدنا منها على ما ظهر معناه ، و
بان فحواه ، و جمعنا ذلك في عشرة فصول :
الفصل الأول
فيما جاء من ذلك مجيء المدح و الثناء و تعداد المحاسن ، كقوله تعالى : لقد
جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [
سورة التوبة /9 : الآية 128 ] .
قال السمرقندي [ 6 ] : و قرأ بعضهم : من أنفسكم ـ بفتح الفاء . و قراءة الجمهور بالضم .
قال القاضي الإمام أبو الفضل ـ [ وفقه الله ] أعلم الله تعالى المؤمنين ،
أو العرب ، أو أهل مكة ، أو جميع الناس ، على اختلاف المفسرين : من المواجه
بهذا الخطاب أنه بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفونه ، و يتحققون مكانه ، و
يعلمونه صدقه و أمانته ، فلا يتهمونه بالكذب و ترك النصيحة لهم ، لكونه
منهم ، و أنه لم تكن في العرب قبيلة إلا و لها على رسول الله صلى الله عليه
و سلم ولادة أو قرابة ، [ و هو عند ابن عباس و غيره معنىقوله تعالى : إلا
المودة في القربى ] و ك ونه من أشرفهم ، و أرفعهم ، و أفضلهم ، على قراءة
الفتح ، و هذه نهاية المدح ، ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة ، و أثنى عليه
بمحامد كثيرة ، من حرصه على هدايتهم و رشدهم و إسلامهم ، و شدة ما يعنتهم و
يضر بهم في دنياهم و أخراهم ، و عزته و رأفته و رحمته بمؤمنهم .
قال بعضهم : أعطاه اسمين من أسمائه : رؤوف ، رحيم .
و مثله في الآية الأخرى : قوله تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث
فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن
كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ سورة آل عمران /3 ، الأية : 164]
و في الأية الأخرى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ سورة
الجمعة /62 : الأية 2 ] .
و قوله تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم
ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون [ سورة البقرة /2 :
الآية 151 ] .
و روي عن علي بن أبي طالب ، عنه صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : من
أنفسكم قال : نسباً و صهراً و حسباً ، ليس فى آبائي من لدن آدم سفاح ، كلنا
نكاح .
[ قال ابن الكلبي : كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحاً و لا شيئاً مما كان عليه الجاهلية .
و عن ابن عباس رضي الله عنه ـ في قوله تعالى : وتقلبك في الساجدين ـ قال : من نبي إلى نبي ، حتى أخرجك نبياً ] .
و قال جعفر ابن محمد : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرفهم ذلك ، لكي
يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من
جنسهم في الصورة ، و ألبسه من نعمته [ 7 ] الرأفة و الرحمة ، و أخرجه إلى
الخلق سفيراً صادقاً ، و جعل طاعته طاعته ، و موافقته ، فقال تعالى : من
يطع الرسول فقد أطاع الله .
و قال الله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ سورة الأنبياء / 21 : الآية 107 ] .
قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة
الرحمة ، فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن
أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما
إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله يقول : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ،
فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ، كما قال عليه السلام : حياتي خير لكم و
موتي خير لكم و كما قال عليه الصلاة و السلام : إذا أراد الله رحمة بأمة
قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً . و قال السمر قندي : رحمة
للعالمين : يعني للجن و الإنس .
و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، و رحمة للمنافق بالأمان من القتل ، و رحمة للكافر بتأخير العذاب .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو رحمة للمؤمنين و للكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .
و حكى أن النبى صلى الله عليه و سلم قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من
هذه الرحمة شىء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل
علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين [ سورة التكوير / 81 :
الأية 20 ـ 21 ] .
و روي عن جعفر بن محمد الصادق ـ فى قوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين .
أي بك ، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال الله تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا
شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله
لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم [ سورة النور /
24 : الأية 35 ] .
قال كعب ، و ابن جبير : المراد بالنور الثاني هنا محمد عليه السلام [7 ] . و قوله تعالى مثل نوره أي نور محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال سهل بن عبد الله : المعنى : الله هادي أهل السموات و الأرض ، ثم قال :
مثل نور محمد إذ كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا ، و أراد
بالمصباح قلبه ، و بالزجاجة صدره ، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان و
الحكمة يوقد من شجرة مباركة أي من نور إبراهيم . و ضرب المثل بالشجرة
المباركة .
و قوله : يكاد زيتها يضيء أي تكاد نبوة محمد صلى الله عليه و سلم تبين للناس قبل كلامه كهذا الزيت .
و قيل في هذه الآية غير هذا . و الله أعلم .
و قد سماه الله تعالى في القرآن في غير هذا الموضع نوراً و سراجاً منيراً ،
فقال تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ سورة المائدة / 5 : الآية
15 ] .
و قال تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ سورة الأحزاب / 33 : الأية 45 ـ 46 ] .
و من ه ذا قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض
ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت
فانصب * وإلى ربك فارغب [ سورة الشرح / 94 ] .
شرح : وسع . و المراد بالصدر هنا : القلب . قال ابن عباس : شرحه بالإسلام .
و قال سهل : بنور الرسالة .
و قال الحسن : ملأه حكماً و علماً .
و قيل : معناه ألم نطهر قلبك حتى لا يؤذيك الوسواس . و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك :
قيل : ما سلف من ذنبك ـ يعني قبل النبوة .
و قيل : أراد ثقل أيام الجاهلية .
و قيل : أراد ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها . حكاه الماوردي و السلمي .
و قيل : عصمناك ، و لولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك ، حكاه السمرقندي .
ورفعنا لك ذكرك قال يحيى بن آدم : بالنبوة . و قيل : إذا ذكرت ذكرت معي قول
: لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . و قيل : في الأذان [ 8 ] .
قال القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه
وسلم على عظيم نعمه لديه ، و شريف منزلته عنده ، و كرامته عليه ، بأن شرح
قلبه للإيمان و الهداية ، و وسعه لوعى العلم ، و حمل الحكمة ، و رفع عنه
ثقل أمور الجاهلية عليه ، و بغضه لسيرها ، و ما كانت عليه بظهور دينه على
الدين كله ، و حط عنه عهدة أعباء الرسالة و النبوة لتبليغه للناس ما نزل
إليهم ، و تنويهه بعظيم مكانه ، و جليل رتبته ، و رفعه و ذكره ، و قرانه مع
اسمه اسمه .
قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب و لا متشهد و لا
صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله .
و روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه
السلام ، فقال : إن ربي و ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله و
رسوله أعلم . قال : إذا ذكرت ذكرت معي .
قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكري معك .
و قال أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني .
و قال جعفر بن محمد الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية .
و أشار بعضهم في ذلك إلى الشفاعة .
و من ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته و اسمه باسمه ، فقال تعالى :
أطيعوا الله والرسول . و آمنوا بالله ورسوله ، فجمع بينهما بواو العطف
المشركة .
و لا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .
حدثنا الشيخ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الحافظ فيما أجازنيه [ 8 ] ، و
قرأته على الثقة عنه ، قال : حدثنا أبو عمر النمري ، قال : حدثنا أبو محمد
بن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر بن داسة : حدثنا أبو داود السجزي ، حدثنا
أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن
حذيفة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يقولن أحدكم
ما شاء الله و شاء فلان ، و لكن ما شاء الله ثم شاء فلان .
قال الخطابي : أرشدهم صلى الله عليه و سلم إلى الأدب في تقديم مشيئة الله
تعالى على مشيئة من سواه ، و اختارها بثم التي هي للنسق و التراخي ، بخلاف
الواو التي هي للإشتراك .
و مثله الحديث الآخر : إن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :
من يطع الله و رسوله فقد رشد ، و من يعصهما . فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم : بئس خطيب القوم أنت ! قم . أو قال : اذهب . قال أبو سليمان : كره
منه الجمع بين الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية .
و ذهب غيره إلى أنه كره له الوقوف على يعصهما .
و قول أبي سليمان أصح ، لما روي في الحديث الصحيح أنه قال : و من يعصهما فقد غوى ، و لم يذكر الوقوف على يعصهما .
و قد اختلف المفسرون و أصحاب المعاني في قوله تعالى : إن الله وملائكته
يصلون على النبي ، هل [ يصلون ] راجعة على الله تعالى و الملائكة أم لا ؟ .
فأجازه بعضهم ، و منعه آخرون ، لعلة التشريك ، و خصوا الضميربالملائكة ، و قدروا االآية : إن الله يصلي ، و ملائكته يصلون .
و قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك
طاعته ، فقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ سورة النساء / 4 :
الآية 80 ] .
و قد قال [ 9 ] تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر
لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله
لا يحب الكافرين [سورة آل عمران / 3 : الآية31 ـ 32 ] .
روي أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً كما
اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله تعالى : قل أطيعوا الله والرسول فقرن
طاعته بطاعته رغماً لهم . و قد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى في أم
الكتاب : اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ، فقال أبو
العالية ، و الحسن البصر ي : الصراط المستقيم هو رسول الله صلى الله عليه و
سلم و خيار أ هل بيته و أصحابه ، حكاه عنهما أبو الحسن المارودي و حكى مكي
عنهما نحوه ، و قال : هو رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحباه : أبو
بكر و عمر رضي الله عنهما .
و حكى أبو الليث السمرقندي مثله عن أبي العالية ، في قوله تعالى : صراط
الذين أنعمت عليهم ، قال : فبلغ ذلك الحسن ، فقال : صدق و الله و نصح .
و حكى الماوردي ذلك في تفسير : صراط الذين أنعمت عليهم عن عبد الرحمن بن زيد .
و حكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن بعضهم ، في تفسير قوله تعالى : فقد
استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ـ أنه محمد صلى الله
عليه و سلم .
و قيل : الإسلام .
و قيل : شهادة التوحيد .
و قال سهل في قوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ـ قال : نعمته بمحمد صلى الله عليه و سلم .
و قال تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاؤون
عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ( سورة الزمر / 39 : الأية 33 ، 34 ) .
أكثر المفسرين على أن الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه و سلم .
و قا ل بعضهم : و هو الذي صدق به .
و قرىء : صدق ـ بالتخفيف .
و قال غيرهم : الذي صدق به المؤمنون [ 9 ] .
و قيل أبو بكر . و قيل علي . غير هذا من الأقوال .
و عن مجاهد ـ في قوله تعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب ـ قال : بمحمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه .
الفصل الثاني
في وصفه تعالى له بالشهادة و ما يتعلق بها من الثناء و الكرامة
قال الله تعالى : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا
إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( سورة الأحزاب /33 : الآية 45 ـ 46 ) .
جمع الله تعالى في هذه الآية ضروباً من رتب الأثرة ، و جملة أوصاف من
المدحة فجعله شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة ، و هي من خصائصه صلى
الله عليه و سلم ، و مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته ، و داعياً
إلى توحيده و عبادته ، و سراجاً منيراً يهتدى به للحق .
حدثنا الشيخ أبو محمد بن عتاب رحمه الله ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ،
حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله
محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا
هلال ، عن عطاء ابن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت :
أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أجل ، و الله ، إنه
لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا
ومبشرا ونذيرا ، و حرزاً للأميين ، أنت عبدي و رسولي ، سميتك المتوكل ، ليس
بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق ، و لا يدفع بالسيئة السيئة ، و لكن
يعفو و يغفر ، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا :
لاإله إلا الله ، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً ، و قلوباً غلفاً.
و ذكر مثله عن عبد الله بن سلام [ 10 ] و كعب الأحبار ، و في بعض طرقه ، عن
ابن إسحاق : و لا صخب في الأسواق ، و لا متزين بالفحش ، و لا قوال للخنا ،
أسدده لكل جميل ، و أهب له كل خلق كريم ، و أجعل السكينة لباسه ، و البر
شعاره ، و التقوى ضميره ، و الحكمة معقوله ، و الصدق و الوفاء طبيعته ، و
العفو و المعروف خلقه ، و العدل سيرته ، و الحق شريعته ، و الهدى إمامه ، و
الإسلا م ملته ، و أحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، و أعلم به بعد
الجهالة ، و أرفع به بعد الخمالة ، و أسمي به بعد النكرة ، و أكثر به بعد
القلة ، و أغني به بعد العلة ، و أجمع به بعد الفرقة ، و أولف به بين قلوب
مختلفة ، و أهواء متشتتة ، و أمم متفرقة ، و أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس
. و في حديث آخر : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفته في
التوراة : عبدي أحمد المختار ، مولده بمكة ، و مهاج ره بالمدينة ، أو قال :
طيبة أمته الحمادون لله على كل حال . و قال تعالى الذين يتبعون الرسول
النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم
والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور
الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم
جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله
ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [سورة
الأعراف /7 : الآية 157ـ158 ] .
و قد قال تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب
لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل
على الله إن الله يحب المتوكلين [ سورة آل عمران / 3 : الآية 159 ] .
قال السمرقندي : ذكرهم الله منته أنه جعل رسوله رحيماً بالمؤمنين ، رؤوفاً
لين الجانب ، و لو كان فظاً خشناً في القول لتفرقوا من حوله ، و لكن جعله
الله تعالى سمحاً ، سهلاً طلقاً براً لطيفاً .
هكذا قاله الضحاك .
و قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة / 2 : الآية 143 ] .
قال أبو الحسن القابسي : أبان الله تعالى فضل نبينا صلى الله عليه و سلم ، و
فضل أمته بهذه الآية ، و في قوله في الآية [ 10 ] الأخرى : وفي هذا ليكون
الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس [ سورة الحج / 22 : الآية 78 ]
.
و كذلك قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ سورة النساء / 4 : الآية 41 ] .
قوله تعالى : وسطاً : أي عدلاً خياراً .
و معنى هذه الآية : و كما هديناكم فكذلك خصصناكم و فضلناكم بأن جعلناكم أمة
خياراً عدولاً ، لتشهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم ، و يشهد لكم
الرسول بالصدق .
و قيل : إن الله جل جلاله إذا سأل الأنبياء : هل بلغتم . فيقولون : نعم .
فتقول أممهم : ما جاءنا من بشير و لا نذير ، فتشهد أمة محمد صلى الله عليه و
سلم للأ نبياء ، و يزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم .
و قيل : معنى الآية : إنكم حجة على كل من خالفكم ، و الرسول حجة عليكم . حكاه السمرقندي .
و قال الله تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم [ سورة يونس / 10 : الآية 2 ] .
قال قتادة ، و الحسن ، و زيد بن أسلم : قدم صدق : هو محمد صلى الله عليه و سلم ، يشفع لهم .
و عن الحسن أيضاً : هي مصيبتهم بنبيهم .
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، هو شفيع صدق عند ربهم .
و قال سهل بن عبد الله التستري : هي سابقة رحمة أودعها الله في محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال محمد بن علي الترمذي : هو إمام الصادقين و الصديقين ، الشفيع المطاع ،
و السائل المجاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه عنه السلمي .
الفصل الثالث
فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة و المبرة
من ذلك قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ سورة التوبة / 9 : الآية 43 ].
قال أبو محمد مكي : قيل هذا إفتتاح كلام بمنزلة : أصلحك الله ، و أعزك الله .
و قال عون بن عبد الله : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .
و حكى السمرقندي عن بعضهم أن معناه : عافاك الله يا سليم القلب : لم أذنت لهم ؟ .
قال : و لو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، لم أذنت لهم لخيف عليه أن
ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام ، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى
سكن قلبه ، ثم قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره
من الكاذب .
و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب .
و من إكرامه إياه و بره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب . قال
نفطويه : ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم معاتب بهذه الآية ، و
حاشاه من ذلك ، بل كان مخيراً فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم
يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، و أنه لا حرج عليه في الأذن لهم .
قال القاضي أبو الفضل : يجب على المسلم المجاهد نفسه ، ا لرائض بزمام
الشريعة خلقه أن يتأدب بأدب القرآن في قوله و فعله ، و معاطاته و محاوراته ،
فهو عنصر المعارف الحقيقية ، و روضة الأداب الدينة و الدنيوية ، و ليتأمل
هذه الملاطفة العجيبة في السؤال من رب الأرباب ، المنعم على الكل ،
المستغني عن الجميع ، و يستثر ما فيها من الفوائد ، و كيف ابتدأ بالإكرام
قبل العتب ، و أنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب .
و قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 : الآية 74 ] .
قال بعض المتكلمين : عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد [ 11]
الزلات ، و عاتب نبياً عليه السلام قبل وقوعه ، ليكون بذلك أشد انتهاءً و
محافظة لشرائط المحبة ، و هذه غاية العناية .
ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه و خيف أن يركن إليه ،
ففي أثناء عتبه براءته ، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته .
و مثله قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
قال علي رضي الله عنه : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا
نكذبك و لكن نكذب ما جئ ت به ، فأنزل الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كذبه قومه حزن ، فجاءه جبريل عليه
السلام فقال : ما يحزنك ؟ قال : كذبني قومي ! فقال : إنهم يعلمون أنك صادق ،
فأنزل الله تعالى الآية .
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ ، من تسليته تعالى له عليه السلام ، و
إلطافه به في القول ، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، و أنهم غير مكذبين له ،
معترفون بصدقه قولاً و إعتقاداً ، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ
الأمين ، فدفع بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب ، ثم جعل الذم لهم
بتسميتهم جاحدين ظالمين ، فقال تعالى : ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [
سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
فحاشاه من الوصم ، و طوقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم ، إذ الجحد
إنما يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم ظلما وعلوا [ سورة النمل / 17 : الآية 14 ] .
ثم عزاه و آنسه بما ذكره عمن قبله ، و وعده النصر بقوله تعالى : ولقد كذبت
رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات
الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ سورة الأنعام / 6 : الآية 34 ] .
فمن قرأ وإن يكذبوك بالتخفيف ، فمعناه : لا يجدونك كاذباً . و قال الفراء ، و الكسائي : لا يقولون إنك كاذب .
و قيل : لا يحتجون على كذبك ، و لا يثبتونه .
و من قرأ بالتشديد فمعناه : لا ينسبوك إلى الكذب . و قيل : لا يعتقدون كذبك .
و مما ذكر من خصائصه و بر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء
بأسمائهم ، فقال تعالى : يا آدم ، يا نوح ، يا موسى ، يا داود ، يا عيسى ،
يا زكريا ، يا يحيى . و لم يخاطب هو إلا : يأيها الرسول ، يأيها النبي ، يأ
يها المزمل ، يأيها المدثر .
الفصل الرابع
في قسمه تعالى في عظيم قدره
قال الله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ سورة الحجر / 15 : الأية
72 ] . اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد
صلى الله عليه و سلم ، و أصله ضم العين ، من العمر ، و لكنها فتحت لكثرة
الإستعمال . و معناه : و بقائك يا محمد و قيل : و عيشك . و قيل : و حياتك .
و هذه نهاية التعظيم ، و غاية البر و التشريف . قال ابن عباس رضي الله
عنهما : ما خلق الله تعالى ، و ما ذرأ ، و ما برأ نفساً ـ أكرم عليه من
محمد صلى الله عليه و سلم ، و ما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره .
و قال أبو الجوزاء : ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه و سلم ، لأنه أكرم البرية عنده .
و قال تعالى : يس * والقرآن الحكيم .
اختلف المفسرون في معنى يس على أقوال ، فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي
صلى الله عليه و سلم أنه قال : لي عند ربي عشرة أسماء ذكر منها : طه و يس ـ
اسمان له .
و حكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن جعفر الصادق ـ أنه أراد : يا سيد ، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه و سلم [ 12 ] .
و عن ابن عباس : يس ـ يا إنسان ، أراد محمداً صلى الله عليه و سلم .
و قال : هو قسم ، و هو من أسماء الله تعالى .
و قال الزجاج : قيل معناه : يا محمد . و قيل : يا رجل . و قيل : يا إنسان .
و عن ابن الحنفية : يس : يا محمد .
و عن كعب : يس : قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السماء و الأرض بألفي
عام : يا محمد إنك لمن المرسلين . ثم قال : و القرآن الحكيم إنك لمن
المرسلين .
فإن قرر أنه بين أسمائه صلى الله عليه و سلم ، و ضح فيه . أنه قسم كان فيه
من التعظيم ما تقدم ، و يؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه ، و إن كان
بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته ، و الشهادة بهدايته :
أقسم الله تعالى باسمه و كتابه إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، و على
صراط مستقيم من إيمانه ، أي طريق لا اعوجاج فيه ، ولا عدول عن الحق .
قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرساله في كتاب إلا له ،
و فيه من تعظيمه و تمجيده ـ عن تأويل من قال : أنه يا سيد ـ ما فيه ، و قد
قال عليه السلام : أنا سيد ولد آدم ، و لا فخر .
و قال تعالى : لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد [ سورة البلد / 90 : الآية 2 ] .
قيل : لا أقسم به إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه ، حكاه مكي .
و قيل : [ لا ] زائدة ، أي أقسم به و أنت به يا محمد حلال . أو حل لك ما فعلت فيه على التفسيرين .
و المراد بالبلد عند هؤلاء مكة .