منتديات بحور الاسلام
ضيفنا العزيز: أنت غير مسجل لذلك نتمنى ويسعدنا أن تنضم إلينا في منتديات بحور الإسلام




منتديات بحور الاسلام
ضيفنا العزيز: أنت غير مسجل لذلك نتمنى ويسعدنا أن تنضم إلينا في منتديات بحور الإسلام



منتديات بحور الاسلام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات بحور الاسلامدخول

موسوعة شاملة من المعلومات . اسلامية . فنية . ثقافية . تاريخية . برمجية . علمية . ترفيهية . صوتيات . مرئيات

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ .. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم .. سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ .. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .. بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .. رضيت بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً .. أَصْـبَحْنا وَأَصْـبَحَ المُـلْكُ لله وَالحَمدُ لله ، لا إلهَ إلاّ اللّهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لهُ، لهُ المُـلكُ ولهُ الحَمْـد، وهُوَ على كلّ شَيءٍ قدير .. يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كُلهُ ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين .. ا اللهم إني أصبحت اشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا انت وحدك لاشريك لك وأن محمد عبدك ورسولك .. ا اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور .. اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد والشكر .. سبحان الله وبحمده عدد خلقهِ ورِضَا نفسِهِ وزِنُة عَرشِهِ ومِداد كلماته .. االلهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .. لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .. استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأسأله التوبة والمغفرة .. أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه توبة عبد ظالم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا .. اللهم أغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي .. اللهم إني أستغفرك من كل ذنب أذنبته وتعمدته أو جهلته. وأستغفرك من كل الذنوب التي لا يعلمها غيرك ، ولا يسعها إلا حلمك. .. االلهم إني أستغفرك لكل ذنب يعقب الحسرة ويورث الندامة ويحبس الرزق ويرد الدعاء .. اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك من كل ذنب أذنبته ولكل معصية أرتكبتها. فأغفر لي يا أرحم الراحمين .. االلهم إني أستغفرك لكل ذنب يدعو إلى غضبك أو يدني إلى سخطك أو يمل بي إلى ما نهيتني عنه أو يبعدني عما دعوتني إليه .. اللهم إني أستغفرك من كل ذنب يصرف عني رحمتك أو يحل بي نقمتك أو يحرمني كرامتك أو يزيل عني نعمتك .. االلهم إني أستغفرك لكل ذنب يزيل النعم ويحل النقم ويهتك الحُرَم ويورث الندم ويطيل السقم ويعجل الألم .. اللهم إني أستغفرك لكل ذنب يمحق الحسنات ويضاعف السيئات ويحل النقمات ويغضبك يا رب الأرض والسماوات .. اللهم إني أستغفرك لكل ذنب يكون في إجترائه قَطْعُ الرجاء ورد الدعاء وتوارد البلاء وترادف الهموم وتضاعف الغموم .. اللهم إني أستغفرك لكل ذنب يرُدُّ عنك دعائي ويقطع منك رجائي ويطيل في سخطك عنائي ويقصر بي عنك أملي .. اللهم إني أستغفرك لكل ذنب يميت القلب ويشعل الكرب ويشغل الفكر ويرضي الشيطان ويسخط الرحمن .. اللهم إني أستغفرك لكل ذنب يعقب اليأس من رحمتك والقنوط من مغفرتك والحرمان من سعة ما عندك .. اللهم إني أستغفرك من كل ذنب يدعو إلى الكفر ويورث الفقر ويجلب العسر ويصد عن الخير ويهتك الستر ويمنع الستر .. اللهم إني أستغفرك لكل ذنب يدني الآجال ويقطع الآمال ويشين الأعمال .. اللهم إني أستغفرك يا عالم الغيب والشهادة من كل ذنب آتيته في ضياء النهار وسواد الليل وفي ملأٍ وخلاءٍ وسرٍ وعلانية يا حليم .. اللهم أغفر لي ذنبي مغفرة أنسى بها كل شئ سواك ، وهب لي تقواك وأجعلني ممن يحبك ويخشاك .. اللهم إني مستغيث أستمطر رحمتك الواسعة من خزائن جودك، فأغثني يا رحمن، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، إني ظلمت نفسي كثيرًا، فارحمني يا أرحم الراحمين .. يا من إذا عظٌمت على عبده الذنوب وكثرة العيوب ، فقطرة من سحائب كرمك لا تبقي له ذنبا ، ونظرةُُ من رضاك لا تترك له عيباً ، أسألك يا مولاي أن تتوب علي وتغفر لي .. أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القويم من الشيطان الرجيم .. اللهم إغفر لى ذنوبى ، اللهم إنى أسألك من فضلك ، اللهم إعصمنى من الشيطان .. رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق .. اللهم بك امسينا وبك اصبحنا وبك نحيا وبك نموت واليك المصير .. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏ ..

descriptionكتاب الشفاء .. كامل Emptyكتاب الشفاء .. كامل

more_horiz

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة المؤلف
مقام عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة؛ فهم حملة الشريعة وعلومها
التي يبثُّونها في صدور الرجال بالتلقين والتأليف، ذَبُّوا عن الشريعة
بسيوف علومهم؛ فبقيت علومهم خالدة تالدة إلى الأبد، وكم من ولي لله كان
معهم وبعدهم بكثير، كان لهم تلاميذ وأوراد، وانقطعت تلك الأوراد وباد
المريدون بمرور الأزمان، وأئمة العلم ما زالوا بعلومهم كأنهم أحياء.." هذا
الكلام النفيس من بيان أبي عبد الله محمد الأمين في كتابه "المجد الطارف
والتالد"، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره الرفيع بين علماء الإسلام،
وليس في كلام الشيخ مبالغة أو تزويد؛ فقد حقق القاضي عياض شهرة واسعة حتى
قيل: لولا عياض لما عُرف المغرب، وكأنهم يعنون –في جملة ما يعنون- أنه أول
من لفت نظر علماء المشرق إلى علماء المغرب حتى أواسط القرن السادس الهجري.
المولد والنشأة
يعود نسب القاضي "عياض بن موسى اليحصبي" إلى إحدى قبائل اليمن العربية
القحطانية، وكان أسلافه قد نزلوا مدينة "بسطة" الأندلسية من نواحي "غرناطة"
واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة "فاس" المغربية، ثم غادرها جده
"عمرون" إلى مدينة "سبتة" حوالي سنة (373 هـ = 893م)، واشتهرت أسرته
بـ"سبتة"؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه المدينة مولد عياض في
(15 من شعبان 476هـ = 28 من ديسمبر 1083م)، ونشأ بها وتعلم، وتتلمذ على
شيوخها.
الرحلة في طلب العلم
رحل عياض إلى الأندلس سنة (507هـ = 1113م) طلبًا لسماع الحديث وتحقيق
الروايات، وطاف بحواضر الأندلس التي كانت تفخر بشيوخها وأعلامها في الفقه
والحديث؛ فنزل قرطبة أول ما نزل، وأخذ عن شيوخها المعروفين كـ"ابن عتاب"،
و"ابن الحاج"، و"ابن رشد"، و"أبي الحسين بن سراج" وغيرهم، ثم رحل إلى
"مرسية" سنة (508هـ = 1114م)، والتقى بأبي علي الحسين بن محمد الصدفي، وكان
حافظًا متقنًا حجة في عصره، فلازمه، وسمع عليه الصحيحين البخاري ومسلم،
وأجازه بجميع مروياته.
اكتفى عياض بما حصله في رحلته إلى الأندلس، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق
مثلما يفعل غيره من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية
في الأندلس وظهور عدد كبير من علمائها في ميادين الثقافة العربية
والإسلامية، يناظرون في سعة علمهم ونبوغهم علماء المشرق المعروفين.
عاد عياض إلى "سبتة" غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار،
والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، وكانت عودته في (7 من جمادى الآخرة
508هـ = 9 من أكتوبر 1114م)، وجلس للتدريس وهو في الثانية والثلاثين من
عمره، ثم تقلد منصب القضاء في "سبتة" سنة (515 هـ = 1121م) وظل في منصبه
ستة عشر عامًا، كان موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ثم تولى قضاء "غرناطة"
سنة (531هـ = 1136م) وأقام بها مدة، ثم عاد إلى "سبتة" مرة أخرى ليتولى
قضاءها سنة (539هـ = 1144م).
القاضي عياض محدثًا
كانت حياة القاضي عياض موزعة بين القضاء والإقراء والتأليف، غير أن الذي
أذاع شهرته، وخلَّد ذكره هو مصنفاته التي بوَّأَتْه مكانة رفيعة بين كبار
الأئمة في تاريخ الإسلام، وحسبك مؤلفاته التي تشهد على سعة العلم وإتقان
الحفظ، وجودة الفكر، والتبحر في فنون مختلفة من العلم.
وكان القاضي عياض في علم الحديث الفذَّ في الحفظ والرواية والدراية، العارف
بطرقه، الحافظ لرجاله، البصير بحالهم؛ ولكي ينال هذه المكانة المرموقة كان
سعيه الحثيث في سماع الحديث من رجاله المعروفين والرحلة في طلبه، حتى تحقق
له من علو الإسناد والضبط والإتقان ما لم يتحقق إلا للجهابذة من
المحدِّثين، وكان منهج عياض في الرواية يقوم على التحقيق والتدقيق وتوثيق
المتن، وهو يعد النقل والرواية الأصل في إثبات صحة الحديث، وتشدد في قضية
النقد لمتن الحديث ولفظه، وتأويل لفظه أو روايته بالمعنى، وما يجره ذلك من
أبواب الخلاف.
وطالب المحدث أن ينقل الحديث مثلما سمعه ورواه، وأنه إذا انتقد ما سمعه
فإنه يجب عليه إيراد ما سمعه مع التنبيه على ما فيه؛ أي أنه يروي الحديث
كما سمعه مع بيان ما يَعِنُّ له من تصويب فيه، دون قطع برأي يؤدي إلى
الجرأة على الحديث، ويفتح بابًا للتهجم قد يحمل صاحبه على التعبير والتصرف
في الحديث بالرأي.
وألَّف القاضي في شرح الحديث ثلاثة كتب هي: "مشارق الأنوار على صحاح
الآثار" وهو من أدَلِّ الكتب على سعة ثقافة عياض في علم الحديث وقدرته على
الضبط والفهم، والتنبيه على مواطن الخطأ والوهم والزلل والتصحيف، وقد ضبط
عياض في هذا الكتاب ما التبس أو أشكل من ألفاظ الحديث الذي ورد في الصحيحين
وموطأ مالك، وشرح ما غمض في الكتب الثلاثة من ألفاظ، وحرَّر ما وقع فيه
الاختلاف، أو تصرف فيه الرواة بالخطأ والتوهم في السند والمتن، ثم رتَّب
هذه الكلمات التي عرض لها على ترتيب حروف المعجم.
أما الكتابان الآخران فهما "إكمال المعلم" شرح فيه صحيح مسلم، و"بغية الرائد لما في حديث أم زرع من الفوائد".
وله في علم الحديث كتاب عظيم هو " الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع"
... فقيهًا
درس القاضي عياض على شيوخه بـ"سبتة" المدونة لابن سحنون، وهو مؤلَّف يدور
عليه الفقه المالكي، ويُعَدُّ مرجعَهُ الأول بلا منازع، وقد كُتبت عليه
الشروح والمختصرات والحواشي، غير أن المدونة لم تكن حسنة التبويب؛ حيث
تتداخل فيها المسائل المختلفة في الباب الواحد، وتعاني من عدم إحكام وضع
الآثار مع المسائل الفقهية.
وقد لاحظ القاضي عياض هذا عند دراسته "المدونة" على أكثر من شيخ؛ فنهض إلى
عمل عظيم، فحرَّر رواياتها، وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك
في كتابه "التنبيهات المستنبَطة على الكتب المدونة والمختلطة" ولا شكَّ أن
قيام القاضي عياض بمثل هذا العمل يُعد خطوة مهمة في سبيل ضبط المذهب
المالكي وازدهاره.
القاضي عياض مؤرخًا
ودخل القاضي ميدان التاريخ من باب الفقه والحديث، فألَّف كتابه المعروف "
تدريب المدارك"، وهو يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي
ورواة "الموطأ" وعلمائه، وقد استهلَّ الكتاب ببيان فضل علم أهل المدينة،
ودافع عن نظرية المالكية في الأخذ بعمل أهل المدينة، باعتباره عندهم من
أصول التشريع، وحاول ترجيح مذهبه على سائر المذاهب، ثم شرع في الترجمة
للإمام مالك وأصحابه وتلاميذه، وهو يعتمد في كتابه على نظام الطبقات دون
اعتبار للترتيب الألفبائي؛ حيث أورد بعد ترجمة الإمام مالك ترجمة أصحابه،
ثم أتباعهم طبقة طبقة حتى وصل إلى شيوخه الذين عاصرهم وتلقى على أيديهم.
والتزم في طبقاته التوزيع الجغرافي لمن يترجم لهم، وخصص لكل بلد عنوانًا
يدرج تحته علماءه من المالكية؛ فخصص للمدينة ومصر والشام والعراق عناوين
خاصة بها، وإن كان ملتزما بنظام الطبقات.
وأفرد لعلمائه وشيوخه الذين التقى بهم في رحلته كتابه المعروف باسم
"الغُنية"، ترجم لهم فيه، وتناول حياتهم ومؤلفاتهم وما لهم من مكانة ومنزله
وتأثير، كما أفرد مكانا لشيخه القاضي أبي على الحسين الصدفي في كتابه
"المعجم" تعرض فيه لشيخه وأخباره وشيوخه، وكان "الصدفي" عالمًا عظيما اتسعت
مروياته، وصار حلقة وصل بين سلاسل الإسناد لعلماء المشرق والمغرب؛ لكثرة
ما قابل من العلماء، وروى عنهم، واستُجيز منهم.
... أديبًا
وكان القاضي أديبًا كبيرًا إلى جانب كونه محدثًا فقيهًا، له بيان قوي
وأسلوب بليغ، يشف عن ثقافة لغوية متمكنة وبصر بالعربية وفنونها، ولم يكن
ذلك غريبًا عليه؛ فقد كان حريصًا على دراسة كتب اللغة والأدب حرصه على تلقي
الحديث والفقه، فقرأ أمهات كتب الأدب، ورواها بالإسناد عن شيوخه مثلما فعل
مع كتب الحديث والآثار، فدرس "الكامل" للمبرد و"أدب الكاتب" لابن قتيبة،
و"إصلاح المنطق" لابن السكيت، و"ديوان الحماسة"، و"الأمالي" لأبي علي
القالي.
وكان لهذه الدراسة أثرها فيما كتب وأنشأ، وطبعت أسلوبه بجمال اللفظ، وإحكام العبارة، وقوة السبك، ودقة التعبير.
وللقاضي شعر دوَّنته الكتب التي ترجمت له، ويدور حول النسيب والتشوق إلى
زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، والمعروف أن حياته العلمية وانشغاله
بالقضاء صرفه عن أداء فريضة الحج، ومن شعره الذي يعبر عن شوقه ولوعته
الوجدانية ولهفته إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم):
بشراك بشراك فقد لاحت قبابهم
فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار
هذا المحصب، هذا الخيف خيف منى
هذي منازلهم هذي هي الدار
هذا الذي وخذت شوقًا له الإبل
هذا الحبيب الذي ما منه لي بدل
هذا الذي ما رأتْ عين ولا سمعت
أذْنٌ بأكرمَ من كَفِّهِ إن سألوا
ولا يمكن لأحد أن يغفل كتابه العظيم "الشفا بأحوال المصطفى" الذي تناول فيه
سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقصد من كتابه إحاطة الذات النبوية بكل
ما يليق بها من العصمة والتفرد والتميز عن سائر البشر، في الوقت الذي كانت
فيه آراء جانحة تخوض في مسألة النبوة، وتسوِّي بين العقل والوحي. ولما كان
النص الشرعي مصدرًا أساسيًا للمعرفة وأصلا لا يحتمل النزاع فيه متى ثبت
بالسند الصحيح، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) مصدر هذه المعرفة، فقد
انبرى القاضي عياض ببيان مقام النبوة وصيانته من كل ما لا يليق به.
وفاته
عاش القاضي عياض الشطر الأكبر من حياته في ظل دولة "المرابطين"، التي كانت
تدعم المذهب المالكي، وتكرم علماءه، وتوليهم مناصب القيادة والتوجيه، فلما
حلَّ بها الضعف ودبَّ فيها الوهن ظهرت دولة "الموحدين"، وقامت على أنقاض
المرابطين، وكانت دولة تقوم على أساس دعوة دينية، وتهدف إلى تحرير الفكر من
جمود الفقهاء والعودة إلى القرآن والسنة بدلاً من الانشغال بالفروع
الفقهية، وكان من الطبيعي أن يصطدم القاضي عياض -بتكوينه الثقافي ومذهبه
الفقهي- مع الدولة القادمة، بل قاد أهل "سبتة" للثورة عليها، لكنها لم
تفلح، واضطر القاضي أن يبايع زعيم "الموحدين" عبد المؤمن بن علي الكومي.
ولم تطُلْ به الحياة في عهد "الموحدين"، فتوفي في (9 من جمادى الآخرة 544 هـ = 14 من أكتوبر 1149م)
من مصادر الدراسة:
• ابن بشكوال: كتاب الصلة ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة ـ 1966م.
• القاضي عياض: ترتيب المدارك ـ تحقيق أحمد بكير محمود ـ مكتبة الحياة ـ بيروت ـ بدون تاريخ.
محمد الكتاني: القاضي عياض، الشخصية والدور الثقافي ـ مجلة الدارة ـ العدد الرابع ـ السنة السادسة عشر ـ 1411.


مقدمة الكتاب
اللهم صل على سيدنا محمد و آله و سلم .
قال الفقيه القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي
رضي الله عنه : الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى ، المختص بالملك الأعز
الأحمى ، الذي ليس دونه منتهى ، و لا وراءه مرمى ، الظاهر لا تخيلا و وهما ،
الباطن تقدسا لا عدماً ، وسع كل شيء رحمةً و علماً ، و أسبغ على أوليائه
نعما عماً ، و بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عرباً و عجماً ، و أزكاهم محتداً و
منمى ، و أرجحهم عقلاً و حلماً ، و أوفرهم علماً و فهماً ، و أقواهم
يقيناً و عزماً ، و أشدهم بهم رأفة و رحمى ، و زكاه روحاً و جسماً ، وحاشاه
عيباً و وصماً ، و آتاه حكمة و حكماً ، و فتح به أعيناً عمياً ، و قلوباً
غلفاً ، و آذاناً صماً ، فآمن به و عزره ، و نصره من جعل الله له في مغنم
السعادة قسماً ، و كذب به و صدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً ، و
من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى . صلى الله عليه وسلم صلاةً تنمو و
تنمى ، و على آله و سلم تسليماً كثيراً .
أما بعد أشرق الله قلبي و قلبك بأنوار اليقين ، و لطف لي و لك بما لطف
لأوليائه المتقين ، الذين شرفه م الله بنزل قدسه ، و أوحشهم من الخليقة
بأنسه ، و خصهم من معرفته و مشاهدة [ 2 ] عجائب ملكوته و آثار قدرته بما
ملأ قلوبهم حبرة ، و وله عقولهم في عظمته حيرة ، فجعلوا همهم به واحداً ، و
لم يروا في الدارين غيره مشاهدا ، فهم بمشاهدة جماله و جلاله يتنعمون ، و
بين آثار قدرته و عجائب عظمته يترددون ، و بالإنقطاع إليه و التوكل عليه
يتعززون ، لهجين بصادق قوله : قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( سورة
الأنعام / 6 : آية 91 ) .
فإنك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة
والسلام ، و ما يجب له من توقير و إكرام ، و ما حكم من لم يوف واجب عظيم
ذلك القدر ، أو قصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر ، و أن أجمع لك ما
لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال ، و أبينه بتنزيل صور و أمثال .
فاعلم _ أكرمك الله _ أنك حملتني من ذلك أمراً إمراً ، و أرهقتني فيما
ندبتني إليه عسراً ، و أرقيتني بما كلفتني مرتقى صعباً ، ملأ قلبي رعباً ،
فإن الكلام في ذلك يستدعي تقرير أصول و تحرير فصول ، و الكشف عن غوامض و
دقائق من علم الحقائق ، مما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم ويضاف إليه ، أو
يمتنع أو يجوز عليه ، و معرفة النبي و الرسول ، و الرسالة و النبوة ، و
المحبة و الخلة ، و خصائص هذه الدرجة العلية ، و ها هنا مهامه فيح تحار
فيها القطا ، و تقصر بها الخطا ، و مجاهل تضل فيها الأحلام إن لم تهتد بعلم
علم و نظر سديد ، و مداحض تزل[3] بها الأقدام ،إن لم تعتمد على توفيق من
الله وتأييد .
لكني لما رجوته لي و لك في هذا السؤال و الجواب من نوال و ثواب ، بتعريف
قدره الجسيم ، و خلقه العظيم ، و بيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق ،
و ما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق ، ليستيقن الذين
أوتوا الكتاب ، و يزداد الذين آمنوا إيماناً ، و لما أخذ الله تعالى على
الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس و لا يكتمونه .
و لما حدثنا به أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، قال : حدثنا
الحسين ابن محمد ، حدثنا أبو عمر النمري حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن ،
حدثنا أبو بكر محمد ابن بكر ، حدثنا سليمان بن الأشعث ، حدثنا موسى بن
اسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا علي بن الحكم ، عن عطاء ، عن أبي هريرة رضي
الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سئل عن علم فكتمه ألجمه
الله بلجام من نار يوم القيامة .
فبادرت إلى نكت مسفرة عن وجه الغرض ، مؤدياً من ذلك الحق المفترض ، اختلسها
على استعجال ، لما المرء بصدده من شغل البدن و البال ، بما طوقه من مقاليد
المحنة التي ابتلى بها ، فكادت تشغل عن كل فرض و نفل ، و ترد بعد حسن
التقويم إلى أسفل سفل ، و لو أراد الله بالإنسان خيراً لجعل شغله و همه كله
فيما يحمد غداً أو يذم محله ، فليس ثم سوى حضرة النعيم ، أو عذاب الجحيم ،
و لكان عليه بخويصته ، و استنفاذ مهجته و عمل صالح يستزيده ، و علم نافع
يفيده أو يستفيده .
جبر الله صدع قلوبنا ، و غفر عظيم ذنوبنا ، و جعل جميع [ 3 ] استعدادنا
لمعادنا ، و توفر دواعينا فيما ينجينا و يقربنا إليه زلفة ، و يحظينا بمنه و
كرمه و رحمته .
و لما نويت تقريبه ، و درجت تبويبه ، و مهدت تأصيله ، و خلصت تفصيله ، و
انتحيت حصره و تحصيله ، ترجمته ب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، و حصرت
الكلام فيه في أقسام أربعة :
القسم الأول : في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاً و فعلاً ، و توجه الكلام فيه في أربعة أبواب :
الباب الأول : في ثنائه تعالى عليه ، و اظهاره عظيم قدره لديه ، و فيه عشرة فصول .
الباب الثاني : في تكميله تعال ى له المحاسن خلقاً و خلقاً ، قرانه جميع
الفضائل الدينية و الدنيوية فيه نسقاً ، و فيه سبعة و عشرون فصلاً .
الباب الثالث : فيما ورد من صحيح الأخبار و مشهورها [ 4 ] بعظيم قدره عند
ربه و منزلته ، و ما خصه به في الدارين من كرامته ، و فيه اثنا عشر فصلاً .

الباب الرابع : فيما أظهره الله تعالى على يديه من الآيات و المعجزات ، و شرفه به من الخصائص و الكرامات ، و فيه ثلاثون فصـل .
القسم الثاني : فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام ، و يترتب القول فيه في أربعة أبواب :
الباب الأول : في فرض الإيمان به و وجوب طاعته و اتباع سنته ، و فيه خمسة فصول .
الباب الثاني : في لزوم محبته و منا صحته ، و فيه ستة فصول .
الباب الثالث : في تعظيم أمره و لزوم توقيره و بره ، و فيه سبعة فصول .
الباب الرابع : في حكم الصلاة عليه و التسليم و فرض ذلك و فضيلته ، و فيه عشرة فصول .
القسم الثالث : ـ فيما يستحيل في حقه ، و ما يجوز عليه شرعاً ، و ما يمتنع و يصح من الأمور البشرية أن يضاف إليه .
و هذا القسم ـ أكرمك الله ـ هو سر الكتاب ، و لباب ثمرة هذه الأبواب ، و ما
قبله له كالقواعد و التمهيدات و الدلائل على ما ن ورده فيه من النكت
البينات ، و هو الحاكم على ما بعده ، و المنجز من غرض هذا التأليف و عده ، و
عند التقصي لموعدته ، و التفصي عن عهدته ، يشرق صدر العدو اللعين ، و يشرق
قلب المؤمن باليقين ، و تملأ أنواره جوانح صدره و يقدر العاقل النبي حق
قدره . و يتحرر الكلام فيه في بابين [5 ] :
الباب الأول : فيما يختص بالأمور الدينية ، و يتشبث به القول في العصمة و فيه ستة عشر فصلاً .
الباب الثاني : في أحواله الدنيوية ، و ما يجوز طروءه عليه من الأعراض البشرية،و فيه تسعة فصول.
القسم الرابع : في تصرف وجوه الأحكام على من تنقصه أو سبه صلى الله عليه و سلم و ينقسم الكلام فيه في بابين :
الباب الأول : في بيان ما هو في حقه سب و نقص ، من تعريض ، أو نص ، و فيه عشرة فصول .
الباب الثاني : في حكم شانئه و مؤذيه و متنقصه و عقوبته ، و ذكر استتابته ، و الصلاة عليه و وراثته ، و فهي عشرة فصول .
و ختمناه بباب ثالث جعلناه تكملة لهذه المسألة [ 5 ] ، و وصلة للبابين
اللذين قبله في حكم من سب الله تعالى و رسله و ملائكته و كتبه ، و آل النبي
رسول الله صلى الله عليه وسلم و صحبه .
و اختصر الكلام فيه في خمسة فصول ، و بتمامها ينتجز الكتاب ، و تتم الأقسام
و الأبواب ، و تلوح في غرة الإيمان لمعة منيرة ، و في تاج التراجم درة
خطيرة ، تزيح كل لبس ، و توضح كل تخمين و حدس ، و تشفي صدور قوم مؤمنين ، و
تصدع بالحق ، و تعرض عن الجاهلين ، و با لله تعالى ـ لا إله سواه ـ أستعين
.

القسم الأول
في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاًو فعلاً
قال [ الفقيه ] القاضي الإمام أبو الفضل رضي الله عنه :
لا خفاء على من مارس شيئاً من العلم ، أو خص بأدنى لمحة من فهم ، بتعظيم
الله تعالى قدر نبينا عليه [ الصلاة و ] السلام ، و خصوصه إياه بفضائل و
محاسن و مناقب لا تنضبط لزمام ، و تنويهه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة
و الأقلام .
فمنها ما صرح به الله تعالى في كتابه ، و نبه به على جليل نصابه ، و أثنى
عليه من أخلاقه و أدابه ، و حض العباد على التزامه ، و تقلد إيجابه ، فكان
جل جلاله هو الذي تفضل و أولى ، ثم طهر و زكى ، ثم مدح بذلك و أثنى ، ثم
أثاب عليه الجزاء الأوفى ، فله الفضل بدءاً [ 6 ] و عودا ً ، و الحمد أولى و
أخرى .
ومنها ماأبرزه للعيان من خلقه على أتم وجوه الكمال و الجلال ، و تخصيصه
بالمحاسن الجميلة و الأخلاق الحميدة ، و المذاهب الكريمة ، و الفضائل
العديدة ، و تأييده بالمعجزات الباهرة ، و البراهين الواضحة ، و الكرامات
البينة التي شاهدها من عاصره و رآها من أدركه ، و علمها علم يقين من جاء
بعده ، حتى انتهى علم ذلك إلينا ، و فاضت أنواره علينا ، صلى الله عليه
وسلم كثيراً .
حدثنا القاضي الشهيد أبو علي الحسين بن محمد الحافظ ، رحمه الله قراءة منى
عليه ، قال : أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ، و أبو الفضل أحمد بن
خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، قال : حدثنا أبو علي السنجي ،
قال : محمد بن أحمد ابن محبوب ، قال : حدثنا أبو عيسى بن سورة الحافظ ، قال
: حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن
أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسري به ملجماً
مسرجاً، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد
أكرم على الله منه . قال : فارفض عرقاً .


الباب الأول : في ثناء الله تعالى عليه و إظهاره عظيم قدره لديه

اعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى ، و عد
محاسنه ، و تعظيم أمره ، و تنويه قدره ، اعتمدنا منها على ما ظهر معناه ، و
بان فحواه ، و جمعنا ذلك في عشرة فصول :
الفصل الأول
فيما جاء من ذلك مجيء المدح و الثناء و تعداد المحاسن ، كقوله تعالى : لقد
جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [
سورة التوبة /9 : الآية 128 ] .
قال السمرقندي [ 6 ] : و قرأ بعضهم : من أنفسكم ـ بفتح الفاء . و قراءة الجمهور بالضم .
قال القاضي الإمام أبو الفضل ـ [ وفقه الله ] أعلم الله تعالى المؤمنين ،
أو العرب ، أو أهل مكة ، أو جميع الناس ، على اختلاف المفسرين : من المواجه
بهذا الخطاب أنه بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفونه ، و يتحققون مكانه ، و
يعلمونه صدقه و أمانته ، فلا يتهمونه بالكذب و ترك النصيحة لهم ، لكونه
منهم ، و أنه لم تكن في العرب قبيلة إلا و لها على رسول الله صلى الله عليه
و سلم ولادة أو قرابة ، [ و هو عند ابن عباس و غيره معنىقوله تعالى : إلا
المودة في القربى ] و ك ونه من أشرفهم ، و أرفعهم ، و أفضلهم ، على قراءة
الفتح ، و هذه نهاية المدح ، ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة ، و أثنى عليه
بمحامد كثيرة ، من حرصه على هدايتهم و رشدهم و إسلامهم ، و شدة ما يعنتهم و
يضر بهم في دنياهم و أخراهم ، و عزته و رأفته و رحمته بمؤمنهم .
قال بعضهم : أعطاه اسمين من أسمائه : رؤوف ، رحيم .
و مثله في الآية الأخرى : قوله تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث
فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن
كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ سورة آل عمران /3 ، الأية : 164]
و في الأية الأخرى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ سورة
الجمعة /62 : الأية 2 ] .
و قوله تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم
ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون [ سورة البقرة /2 :
الآية 151 ] .
و روي عن علي بن أبي طالب ، عنه صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : من
أنفسكم قال : نسباً و صهراً و حسباً ، ليس فى آبائي من لدن آدم سفاح ، كلنا
نكاح .
[ قال ابن الكلبي : كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحاً و لا شيئاً مما كان عليه الجاهلية .
و عن ابن عباس رضي الله عنه ـ في قوله تعالى : وتقلبك في الساجدين ـ قال : من نبي إلى نبي ، حتى أخرجك نبياً ] .
و قال جعفر ابن محمد : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرفهم ذلك ، لكي
يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من
جنسهم في الصورة ، و ألبسه من نعمته [ 7 ] الرأفة و الرحمة ، و أخرجه إلى
الخلق سفيراً صادقاً ، و جعل طاعته طاعته ، و موافقته ، فقال تعالى : من
يطع الرسول فقد أطاع الله .
و قال الله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ سورة الأنبياء / 21 : الآية 107 ] .
قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة
الرحمة ، فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن
أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما
إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله يقول : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ،
فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ، كما قال عليه السلام : حياتي خير لكم و
موتي خير لكم و كما قال عليه الصلاة و السلام : إذا أراد الله رحمة بأمة
قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً . و قال السمر قندي : رحمة
للعالمين : يعني للجن و الإنس .
و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، و رحمة للمنافق بالأمان من القتل ، و رحمة للكافر بتأخير العذاب .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو رحمة للمؤمنين و للكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .
و حكى أن النبى صلى الله عليه و سلم قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من
هذه الرحمة شىء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل
علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين [ سورة التكوير / 81 :
الأية 20 ـ 21 ] .
و روي عن جعفر بن محمد الصادق ـ فى قوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين .
أي بك ، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال الله تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا
شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله
لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم [ سورة النور /
24 : الأية 35 ] .
قال كعب ، و ابن جبير : المراد بالنور الثاني هنا محمد عليه السلام [7 ] . و قوله تعالى مثل نوره أي نور محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال سهل بن عبد الله : المعنى : الله هادي أهل السموات و الأرض ، ثم قال :
مثل نور محمد إذ كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا ، و أراد
بالمصباح قلبه ، و بالزجاجة صدره ، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان و
الحكمة يوقد من شجرة مباركة أي من نور إبراهيم . و ضرب المثل بالشجرة
المباركة .
و قوله : يكاد زيتها يضيء أي تكاد نبوة محمد صلى الله عليه و سلم تبين للناس قبل كلامه كهذا الزيت .
و قيل في هذه الآية غير هذا . و الله أعلم .
و قد سماه الله تعالى في القرآن في غير هذا الموضع نوراً و سراجاً منيراً ،
فقال تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ سورة المائدة / 5 : الآية
15 ] .
و قال تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ سورة الأحزاب / 33 : الأية 45 ـ 46 ] .
و من ه ذا قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض
ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت
فانصب * وإلى ربك فارغب [ سورة الشرح / 94 ] .
شرح : وسع . و المراد بالصدر هنا : القلب . قال ابن عباس : شرحه بالإسلام .
و قال سهل : بنور الرسالة .
و قال الحسن : ملأه حكماً و علماً .
و قيل : معناه ألم نطهر قلبك حتى لا يؤذيك الوسواس . و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك :
قيل : ما سلف من ذنبك ـ يعني قبل النبوة .
و قيل : أراد ثقل أيام الجاهلية .
و قيل : أراد ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها . حكاه الماوردي و السلمي .
و قيل : عصمناك ، و لولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك ، حكاه السمرقندي .
ورفعنا لك ذكرك قال يحيى بن آدم : بالنبوة . و قيل : إذا ذكرت ذكرت معي قول
: لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . و قيل : في الأذان [ 8 ] .
قال القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه
وسلم على عظيم نعمه لديه ، و شريف منزلته عنده ، و كرامته عليه ، بأن شرح
قلبه للإيمان و الهداية ، و وسعه لوعى العلم ، و حمل الحكمة ، و رفع عنه
ثقل أمور الجاهلية عليه ، و بغضه لسيرها ، و ما كانت عليه بظهور دينه على
الدين كله ، و حط عنه عهدة أعباء الرسالة و النبوة لتبليغه للناس ما نزل
إليهم ، و تنويهه بعظيم مكانه ، و جليل رتبته ، و رفعه و ذكره ، و قرانه مع
اسمه اسمه .
قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب و لا متشهد و لا
صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله .
و روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه
السلام ، فقال : إن ربي و ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله و
رسوله أعلم . قال : إذا ذكرت ذكرت معي .
قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكري معك .
و قال أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني .
و قال جعفر بن محمد الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية .
و أشار بعضهم في ذلك إلى الشفاعة .
و من ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته و اسمه باسمه ، فقال تعالى :
أطيعوا الله والرسول . و آمنوا بالله ورسوله ، فجمع بينهما بواو العطف
المشركة .
و لا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .
حدثنا الشيخ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الحافظ فيما أجازنيه [ 8 ] ، و
قرأته على الثقة عنه ، قال : حدثنا أبو عمر النمري ، قال : حدثنا أبو محمد
بن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر بن داسة : حدثنا أبو داود السجزي ، حدثنا
أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن
حذيفة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يقولن أحدكم
ما شاء الله و شاء فلان ، و لكن ما شاء الله ثم شاء فلان .
قال الخطابي : أرشدهم صلى الله عليه و سلم إلى الأدب في تقديم مشيئة الله
تعالى على مشيئة من سواه ، و اختارها بثم التي هي للنسق و التراخي ، بخلاف
الواو التي هي للإشتراك .
و مثله الحديث الآخر : إن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :
من يطع الله و رسوله فقد رشد ، و من يعصهما . فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم : بئس خطيب القوم أنت ! قم . أو قال : اذهب . قال أبو سليمان : كره
منه الجمع بين الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية .
و ذهب غيره إلى أنه كره له الوقوف على يعصهما .
و قول أبي سليمان أصح ، لما روي في الحديث الصحيح أنه قال : و من يعصهما فقد غوى ، و لم يذكر الوقوف على يعصهما .
و قد اختلف المفسرون و أصحاب المعاني في قوله تعالى : إن الله وملائكته
يصلون على النبي ، هل [ يصلون ] راجعة على الله تعالى و الملائكة أم لا ؟ .

فأجازه بعضهم ، و منعه آخرون ، لعلة التشريك ، و خصوا الضميربالملائكة ، و قدروا االآية : إن الله يصلي ، و ملائكته يصلون .
و قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك
طاعته ، فقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ سورة النساء / 4 :
الآية 80 ] .
و قد قال [ 9 ] تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر
لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله
لا يحب الكافرين [سورة آل عمران / 3 : الآية31 ـ 32 ] .
روي أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً كما
اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله تعالى : قل أطيعوا الله والرسول فقرن
طاعته بطاعته رغماً لهم . و قد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى في أم
الكتاب : اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ، فقال أبو
العالية ، و الحسن البصر ي : الصراط المستقيم هو رسول الله صلى الله عليه و
سلم و خيار أ هل بيته و أصحابه ، حكاه عنهما أبو الحسن المارودي و حكى مكي
عنهما نحوه ، و قال : هو رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحباه : أبو
بكر و عمر رضي الله عنهما .
و حكى أبو الليث السمرقندي مثله عن أبي العالية ، في قوله تعالى : صراط
الذين أنعمت عليهم ، قال : فبلغ ذلك الحسن ، فقال : صدق و الله و نصح .
و حكى الماوردي ذلك في تفسير : صراط الذين أنعمت عليهم عن عبد الرحمن بن زيد .
و حكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن بعضهم ، في تفسير قوله تعالى : فقد
استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ـ أنه محمد صلى الله
عليه و سلم .
و قيل : الإسلام .
و قيل : شهادة التوحيد .
و قال سهل في قوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ـ قال : نعمته بمحمد صلى الله عليه و سلم .
و قال تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاؤون
عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ( سورة الزمر / 39 : الأية 33 ، 34 ) .
أكثر المفسرين على أن الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه و سلم .
و قا ل بعضهم : و هو الذي صدق به .
و قرىء : صدق ـ بالتخفيف .
و قال غيرهم : الذي صدق به المؤمنون [ 9 ] .
و قيل أبو بكر . و قيل علي . غير هذا من الأقوال .
و عن مجاهد ـ في قوله تعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب ـ قال : بمحمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه .
الفصل الثاني
في وصفه تعالى له بالشهادة و ما يتعلق بها من الثناء و الكرامة
قال الله تعالى : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا
إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( سورة الأحزاب /33 : الآية 45 ـ 46 ) .
جمع الله تعالى في هذه الآية ضروباً من رتب الأثرة ، و جملة أوصاف من
المدحة فجعله شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة ، و هي من خصائصه صلى
الله عليه و سلم ، و مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته ، و داعياً
إلى توحيده و عبادته ، و سراجاً منيراً يهتدى به للحق .
حدثنا الشيخ أبو محمد بن عتاب رحمه الله ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ،
حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله
محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا
هلال ، عن عطاء ابن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت :
أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أجل ، و الله ، إنه
لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا
ومبشرا ونذيرا ، و حرزاً للأميين ، أنت عبدي و رسولي ، سميتك المتوكل ، ليس
بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق ، و لا يدفع بالسيئة السيئة ، و لكن
يعفو و يغفر ، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا :
لاإله إلا الله ، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً ، و قلوباً غلفاً.
و ذكر مثله عن عبد الله بن سلام [ 10 ] و كعب الأحبار ، و في بعض طرقه ، عن
ابن إسحاق : و لا صخب في الأسواق ، و لا متزين بالفحش ، و لا قوال للخنا ،
أسدده لكل جميل ، و أهب له كل خلق كريم ، و أجعل السكينة لباسه ، و البر
شعاره ، و التقوى ضميره ، و الحكمة معقوله ، و الصدق و الوفاء طبيعته ، و
العفو و المعروف خلقه ، و العدل سيرته ، و الحق شريعته ، و الهدى إمامه ، و
الإسلا م ملته ، و أحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، و أعلم به بعد
الجهالة ، و أرفع به بعد الخمالة ، و أسمي به بعد النكرة ، و أكثر به بعد
القلة ، و أغني به بعد العلة ، و أجمع به بعد الفرقة ، و أولف به بين قلوب
مختلفة ، و أهواء متشتتة ، و أمم متفرقة ، و أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس
. و في حديث آخر : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفته في
التوراة : عبدي أحمد المختار ، مولده بمكة ، و مهاج ره بالمدينة ، أو قال :
طيبة أمته الحمادون لله على كل حال . و قال تعالى الذين يتبعون الرسول
النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم
والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور
الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم
جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله
ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [سورة
الأعراف /7 : الآية 157ـ158 ] .
و قد قال تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب
لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل
على الله إن الله يحب المتوكلين [ سورة آل عمران / 3 : الآية 159 ] .
قال السمرقندي : ذكرهم الله منته أنه جعل رسوله رحيماً بالمؤمنين ، رؤوفاً
لين الجانب ، و لو كان فظاً خشناً في القول لتفرقوا من حوله ، و لكن جعله
الله تعالى سمحاً ، سهلاً طلقاً براً لطيفاً .
هكذا قاله الضحاك .
و قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة / 2 : الآية 143 ] .
قال أبو الحسن القابسي : أبان الله تعالى فضل نبينا صلى الله عليه و سلم ، و
فضل أمته بهذه الآية ، و في قوله في الآية [ 10 ] الأخرى : وفي هذا ليكون
الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس [ سورة الحج / 22 : الآية 78 ]
.
و كذلك قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ سورة النساء / 4 : الآية 41 ] .
قوله تعالى : وسطاً : أي عدلاً خياراً .
و معنى هذه الآية : و كما هديناكم فكذلك خصصناكم و فضلناكم بأن جعلناكم أمة
خياراً عدولاً ، لتشهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم ، و يشهد لكم
الرسول بالصدق .
و قيل : إن الله جل جلاله إذا سأل الأنبياء : هل بلغتم . فيقولون : نعم .
فتقول أممهم : ما جاءنا من بشير و لا نذير ، فتشهد أمة محمد صلى الله عليه و
سلم للأ نبياء ، و يزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم .
و قيل : معنى الآية : إنكم حجة على كل من خالفكم ، و الرسول حجة عليكم . حكاه السمرقندي .
و قال الله تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم [ سورة يونس / 10 : الآية 2 ] .
قال قتادة ، و الحسن ، و زيد بن أسلم : قدم صدق : هو محمد صلى الله عليه و سلم ، يشفع لهم .
و عن الحسن أيضاً : هي مصيبتهم بنبيهم .
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، هو شفيع صدق عند ربهم .
و قال سهل بن عبد الله التستري : هي سابقة رحمة أودعها الله في محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال محمد بن علي الترمذي : هو إمام الصادقين و الصديقين ، الشفيع المطاع ،
و السائل المجاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه عنه السلمي .
الفصل الثالث
فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة و المبرة
من ذلك قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ سورة التوبة / 9 : الآية 43 ].
قال أبو محمد مكي : قيل هذا إفتتاح كلام بمنزلة : أصلحك الله ، و أعزك الله .
و قال عون بن عبد الله : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .
و حكى السمرقندي عن بعضهم أن معناه : عافاك الله يا سليم القلب : لم أذنت لهم ؟ .
قال : و لو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، لم أذنت لهم لخيف عليه أن
ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام ، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى
سكن قلبه ، ثم قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره
من الكاذب .
و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب .
و من إكرامه إياه و بره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب . قال
نفطويه : ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم معاتب بهذه الآية ، و
حاشاه من ذلك ، بل كان مخيراً فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم
يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، و أنه لا حرج عليه في الأذن لهم .
قال القاضي أبو الفضل : يجب على المسلم المجاهد نفسه ، ا لرائض بزمام
الشريعة خلقه أن يتأدب بأدب القرآن في قوله و فعله ، و معاطاته و محاوراته ،
فهو عنصر المعارف الحقيقية ، و روضة الأداب الدينة و الدنيوية ، و ليتأمل
هذه الملاطفة العجيبة في السؤال من رب الأرباب ، المنعم على الكل ،
المستغني عن الجميع ، و يستثر ما فيها من الفوائد ، و كيف ابتدأ بالإكرام
قبل العتب ، و أنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب .
و قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 : الآية 74 ] .
قال بعض المتكلمين : عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد [ 11]
الزلات ، و عاتب نبياً عليه السلام قبل وقوعه ، ليكون بذلك أشد انتهاءً و
محافظة لشرائط المحبة ، و هذه غاية العناية .
ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه و خيف أن يركن إليه ،
ففي أثناء عتبه براءته ، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته .
و مثله قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
قال علي رضي الله عنه : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا
نكذبك و لكن نكذب ما جئ ت به ، فأنزل الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كذبه قومه حزن ، فجاءه جبريل عليه
السلام فقال : ما يحزنك ؟ قال : كذبني قومي ! فقال : إنهم يعلمون أنك صادق ،
فأنزل الله تعالى الآية .
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ ، من تسليته تعالى له عليه السلام ، و
إلطافه به في القول ، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، و أنهم غير مكذبين له ،
معترفون بصدقه قولاً و إعتقاداً ، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ
الأمين ، فدفع بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب ، ثم جعل الذم لهم
بتسميتهم جاحدين ظالمين ، فقال تعالى : ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [
سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
فحاشاه من الوصم ، و طوقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم ، إذ الجحد
إنما يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم ظلما وعلوا [ سورة النمل / 17 : الآية 14 ] .
ثم عزاه و آنسه بما ذكره عمن قبله ، و وعده النصر بقوله تعالى : ولقد كذبت
رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات
الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ سورة الأنعام / 6 : الآية 34 ] .
فمن قرأ وإن يكذبوك بالتخفيف ، فمعناه : لا يجدونك كاذباً . و قال الفراء ، و الكسائي : لا يقولون إنك كاذب .
و قيل : لا يحتجون على كذبك ، و لا يثبتونه .
و من قرأ بالتشديد فمعناه : لا ينسبوك إلى الكذب . و قيل : لا يعتقدون كذبك .
و مما ذكر من خصائصه و بر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء
بأسمائهم ، فقال تعالى : يا آدم ، يا نوح ، يا موسى ، يا داود ، يا عيسى ،
يا زكريا ، يا يحيى . و لم يخاطب هو إلا : يأيها الرسول ، يأيها النبي ، يأ
يها المزمل ، يأيها المدثر .
الفصل الرابع
في قسمه تعالى في عظيم قدره
قال الله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ سورة الحجر / 15 : الأية
72 ] . اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد
صلى الله عليه و سلم ، و أصله ضم العين ، من العمر ، و لكنها فتحت لكثرة
الإستعمال . و معناه : و بقائك يا محمد و قيل : و عيشك . و قيل : و حياتك .

و هذه نهاية التعظيم ، و غاية البر و التشريف . قال ابن عباس رضي الله
عنهما : ما خلق الله تعالى ، و ما ذرأ ، و ما برأ نفساً ـ أكرم عليه من
محمد صلى الله عليه و سلم ، و ما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره .
و قال أبو الجوزاء : ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه و سلم ، لأنه أكرم البرية عنده .
و قال تعالى : يس * والقرآن الحكيم .
اختلف المفسرون في معنى يس على أقوال ، فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي
صلى الله عليه و سلم أنه قال : لي عند ربي عشرة أسماء ذكر منها : طه و يس ـ
اسمان له .
و حكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن جعفر الصادق ـ أنه أراد : يا سيد ، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه و سلم [ 12 ] .
و عن ابن عباس : يس ـ يا إنسان ، أراد محمداً صلى الله عليه و سلم .
و قال : هو قسم ، و هو من أسماء الله تعالى .
و قال الزجاج : قيل معناه : يا محمد . و قيل : يا رجل . و قيل : يا إنسان .
و عن ابن الحنفية : يس : يا محمد .
و عن كعب : يس : قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السماء و الأرض بألفي
عام : يا محمد إنك لمن المرسلين . ثم قال : و القرآن الحكيم إنك لمن
المرسلين .
فإن قرر أنه بين أسمائه صلى الله عليه و سلم ، و ضح فيه . أنه قسم كان فيه
من التعظيم ما تقدم ، و يؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه ، و إن كان
بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته ، و الشهادة بهدايته :
أقسم الله تعالى باسمه و كتابه إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، و على
صراط مستقيم من إيمانه ، أي طريق لا اعوجاج فيه ، ولا عدول عن الحق .
قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرساله في كتاب إلا له ،
و فيه من تعظيمه و تمجيده ـ عن تأويل من قال : أنه يا سيد ـ ما فيه ، و قد
قال عليه السلام : أنا سيد ولد آدم ، و لا فخر .
و قال تعالى : لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد [ سورة البلد / 90 : الآية 2 ] .
قيل : لا أقسم به إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه ، حكاه مكي .
و قيل : [ لا ] زائدة ، أي أقسم به و أنت به يا محمد حلال . أو حل لك ما فعلت فيه على التفسيرين .
و المراد بالبلد عند هؤلاء مكة .

descriptionكتاب الشفاء .. كامل Emptyرد: كتاب الشفاء .. كامل

more_horiz
و قال الواسطي : أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حياً ، و ببركتك ميتاً ـ يعني المدينة .
و الأول أصح ، لأن السورة مكية ، و ما بعده يصححه : قوله تعالى وأنت حل بهذا البلد [ سورة البلد / 90 : الآية 2 ] .
و نحوه قول ابن عطاء في تفسير قوله تعالى : وهذا البلد الأمين قال : أمنها
الله تعالى بمقامه فيها و كونه بها ، فإن كونه أمان حيث كان .
ثم قال : ووالد وما ولد و من قال : أراد آدم فهو عام ، و من قال : هو
ابراهيم و ما ولد ـ إن شاء الله ـ إشارة إلى محمد صلى الله عليه و سلم ،
فتتضمن السورة القسم به صلى الله عليه و سلم في موضعين .
و قال تعالى : الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه [ سورة البقرة / 2 : الآيه 1 ـ 2 ] .
قال ابن عباس : هذه الحروف أقسام أقسم الله تعالى بها . و عنه و عن غيره فيها غير ذلك.
و قال سهل ابن عبد الله التست ري : الألف هو الله تعالى . و اللام جبريل و الميم محمد صلى الله عليه و سلم .
و حكى هذا القول السمرقندي ، و لم ينسبه إلى سهل ، و جعل معناه : الله أنزل
جبريل على محمد بهذا القرآن لا ريب فيه ، و على الوجه الأول يحتمل القسم
أن هذا الكتاب حق لا ريب فيه ، ثم فيه من فضيلة قرآن اسمه باسمه نحو ما
تقدم .
و قال ابن عطاء ـ في قوله تعالى ق والقرآن المجيد ـ أقسم بقوة قلب حبيبه
محمد صلى الله عليه و سلم حيث حمل الخطاب و المشاهدة و لم يؤثر ذلك فيه
لعلو حاله .
و قيل : هو اسم للقرآن . و قيل : هو اسم لله تعالى . و قيل : جبل محيط بالأرض . و قيل غير هذا .
و قال جعفر بن محمد ـ في تفسير : والنجم إذا هوى : إنه محمد صلى الله عليه و
سلم ، وقال : النجم قلب محمد صلى الله عليه و سلم : انشرح من الأنوار .
و قال : انقطع عن غير الله .
و قال ابن عطاء ـ في قوله تعالى والفجر* وليال عشر ـ الفجر : محمد صلى الله عليه و سلم ، لأنه منه تفجر الإيمان .
الفصل الخامس
في قسمه تعالى جده ، له ، ليحقق مكانته عنده
قال جل اسمه : والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة
خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك
ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا
تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث [سورةالضحى / 93: الأية 93 ]
اختلف في سبب نزول هذه السورة ، فقيل : كان ترك النبي صلى الله عليه و سلم قيام الليل لعذر نزل به ، فتكلمت امرأة في ذلك بكلام .
و قيل : بل تكلم به المشركون عند فترة الوحي ، فنزلت السورة .
قال القاضي الإمام أبو الفضل : تضمنت هذه السورة من كرامة الله تعلى له ، و تنويهه به و تعظيمه إياه ستة و جوه :
الاول : القسم له عما أخبره به من حاله بقوله تعالى والضحى * والليل إذا سجى . أي و رب الضحى ،و هذا من أعظم درجات المبرة .
الثاني : بيان مكانته عنده و حظوته لديه بقوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى
، أي ماتركك و ما أبغضك . و قيل : ما أهملك بعد أن اصطفاك .
الثالث : قوله تعالى : وللآخرة خير لك من الأولى ، قال ابن إسحاق : اي مالك في مرجعك ع ند الله أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا .
و قال سهل : أي ما ما ذخرت لك من الشفاعة و المقام المحمود خير لك مما أعطيتك في الدنيا .
الرابع : قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى
و هذه أيه جامعة لوجوه الكرامة ، و أنواع السعادة ، و شتات الإنعام في الدارين . و الزيادة .
قال ابن إسحاق : يرضيه بالفلج في الدنيا ، و الثواب في الأخرة .
و قيل : يعطيه الحوض و الشفاعة.
و روي عن بعض آل النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ليس آية في القرآن
أرجى منها ، و لا يرضى رسول صلى الله عليه و سلم أن يدخل أحد من أمته النار
.
الخامس : ما عدده تعالى عليه من نعمه ، و قرره من آلائه قبله في بقية
السورة ، من هدايته إلى ما هداه له ، أو هداية الناس به على اختلاف
التفاسير ، ولا مال له ، فأغناه بما آتاه ، أو بما جعله في قلبه من القناعة
و الغنى ، و يتيماً فحدب عليه عمه و آواه إليه .
و قيل : آواه إلى الله . و قيل : يتيماً : لا مثال لك ، فآواك إليه .
و قيل : المعنى : ألم يجدك فهدى بك ضالاً ، و أغنى بك عائلاً ، و آوى بك
يتيماً ـ ذكره بهذه المنن ، و أنه على المعلوم من التفسير لم يهمله في حال
صغره و عيلته و يتمه و قبل معرفته به ، و لا و دعه ولا قلاه ، فكيف بعد
اختصاصه و اصطفائه !
السادس : أمره بإظهار نعمته عليه و شكر ما شرفه بنشره و اشادة ذكره بقوله
تعالى : وأما بنعمة ربك فحدث ، فإن من شكر النعمة الحديث بها ، و هذا خاص
له ، عام لأمته .
و قال تعالى : والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى *
إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق
الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى *
ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند
سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر
وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ سورة النجم / 53 : الآيات 1 : 18 ]
.
اختلف المفسرون في قوله تعالى : والنجم بأقاويل معروفة ، منها النجم على ظاهره ، و منها القرآن .
و عن جعفر بن محمد أنه محمد عليه السلام ، و قال : هو قلب محمد .
و قد قيل في قوله تعالى : والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق * النجم
الثاقب ـ إن النجم هنا أيضاً محمد صلى الله عليه و سلم ، حكاه السلمي .
تضمنت هذه الأيات من فضله و شرفه العد ما يقف دونه العد ، و أقسم جل اسمه
على هداية المصطفى ، و تنزيهه عن الهوى ، و صدقه فيما تلا ، و أنه وحي يوحى
أوصله إليه ـ عن الله ـ جبريل ، و هو الشديد القوى .
ثم أخبر تعالى عن فضيلته بقصة الإسراء ، و انتهائه إلى سدرة المنتهى ، و
تصديق بصره فيما رأى ، و أنه رأى من آيات ربه الكبرى . [ 14 ] . و قد نبه
على مثل هذا في أول سورة الإسراء .
و لما كان ما كاشفه به عليه السلام من ذلك الجبروت ، و شاهده من عجائب
الملكوت لا تحيط به العبارات ، ولاتستقل بحمل سماع أذناه العقول ـ رمز
عنه تعالى بالإيماءة و الكناية الدالة على التعظيم ، فقال تعالى : فأوحى
إلى عبده ما أوحى [ سورة النجم / 53 : الآية 10 ] .
و هذا النوع من الكلام يسميه أهل النقد و البلاغة بالوحي و الإشارة ، و هو عندهم أبلغ أبواب الإيجاز .
و قال تعالى : لقد رأى من آيات ربه الكبرى ـ انحسرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى ، و تاهت الأحلام في تعيين تلك الآيات الكبرى .
قال القاضي أبو الفضل : اشتملت هذه الآيات على إعلام الله تعالى بتزكية
جملته عليه السلام ، و عصمتها من الآفات في هذا المسرى ، فزكى فؤاده و
لسانه و جوارحه : فزكى قلبه بقوله : ما كذب الفؤاد ما رأى . و لسانه بقوله :
وما ينطق عن الهوى .و بصره بقوله : ما زاغ البصر وما طغى [ سورة النجم /
53 : الآية 17 ] .
و قال تعالى : فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح
إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين *
وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين *
وما هو بقول شيطان رجيم [ سورة التكوير / 81 : الأيات : 15 ، 25 ] .
لا أقسم : أي أقسم . إنه لقول رسول كريم ، أي كريم عند مرسله . ذي قوة على
تبليغ ما حمله من الوحي ، مكين : أي متمكن المنزلة من ربه ، رفيع المحل
عنده ، مطاع ثم : أي في السماء . أمين على الوحي .
قال علي بن عيسى و غيره : الرسول الكريم هنا محمد صلى الله عليه و سلم ، فجميع الأوصاف بعد على هذا له .
و قال غيره : هو جبريل ، فترجع الأوصاف إليه .
و لقد رآه ـ يعني محمداً . قيل : رأى ربه . و قيل : رأى جبريل في صورته .
وما هو على الغيب بضنين ، أي : بمتهم . و من قرأها بالضاد فمعناه : ما هو
ببخيل با لدعاء به ، و التذكير بحكمه و بعلمه ، و هذه لمحمد عليه السلام
باتفاق .
و قال تعالى : ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك
لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم * فستبصر ويبصرون * بأيكم المفتون *
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * فلا تطع المكذبين *
ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع
للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم * أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه
آياتنا قال أساطير الأولين * سنسمه على الخرطوم [ سورة القلم / 68 :
الآيات : 1 ، 16 ] .
أقسم الله تعالى بما أقسم به من عظيم قسمه على تنزيه المصطفى بما غمصته ،
الكفرة به ، و تكذيبهم له ، و أنسه ، و بسط أمله بقوله ـ محسناً خطابه : ما
أنت بنعمة ربك بمجنون . و هذه نهاية المبرة في المخاطبة ، و أعلى درجات
الآداب في المحاورة ، ثم أعلمه بماله عنده من نعيم دائم ، و ثواب غير منقطع
، لا يأخذه عد ، و لا يمتن به عليه ، فقال تعالى وإن لك لأجرا غير ممنون .

ثم أثنى عليه بما منحه من هباته ، و هداه إليه ، و أكد ذلك تتميماً للتمجيد
، بحرفي التأكيد ، فقال تعال : وإنك لعلى خلق عظيم . قيل : القرآن و قيل :
الإسلام . و قيل : الطبع الكريم . و قيل : ليس لك همة إلا الله . قال
الواسطي : أثنى عليه بحسن قبوله لما أسداه إليه من نعمه ، و فضله بذ لك على
غيره ، لأنه جبله على ذلك الخلق ، فسبحان اللطيف الكريم ، المحسن الجواد ،
الحميد الذي يسر للخير و هدى إليه ، ثم أثنى على فاعله ، و جازاه عليه
سبحانه ، ما أغمز نواله ، و أوسع إفضاله ، ثم سلاه عن قولهم بعد هذا بما و
عده به من عقباهم ، و توعدهم بقوله : فستبصر ويبصرون * بأيكم المفتون * إن
ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين [ سورة القلم /68 : الأيات
: 5،7 ] .
ثم عطف بعد مدحه على ذم عدوه ، و ذكره سوء خلقه ،و عد معايبه ، متولياً ذلك
بفضله ، و منتصراً لنبيه ، فذكر بضع عشرة خصلة من خصال الذم فيه بقوله :
فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين * هماز
مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم * أن كان ذا مال
وبنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ثم ختم ذلك بالوعد الصادق
بتمام شقائه و ختامه بواره بقوله : سنسمه على الخرطوم . فكانت هنصرة الله [
15 ] له أتم من نصرته لنفسه ، و رده تعالى على عدوه أبلغ من رده ،وأثبت من
ديوان مجده .
الفصل السادس
فيما ورد من قوله تعالى في جهته عليه السلام مورد الشفقة و الإكرام

قال تعالى : طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ سورة طه /20: الأية1،2]
قيل : طه : اسم من أسمائه عليه السلام . و قيل : هو اسم الله، و قيل :
معناه يارجل .و قيل : يا إنسان . و قيل : هي حروف مقطعة لمعان . و قال
الواسطي : أراد يا طاهر ، يا هادي . و قيل : هو أمر من الوطء . و الهاء
كناية عن الأرض ، أي اعتمد على الأرض بقدميك ، ولا تتعب نفسك بالإعتماد على
قدم واحد ، و هو قوله تعالى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى .
نزلت الآية فيما كان النبي صلى الله عليه و سلم يتكلفه من السهر و التعب و قيام الليل.
أخبرنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ، و غير واحد ، عن القاضي
أبي الوليد الباجي إجازة ، و من أصله نقلت ، قال : حدثنا أبوذر الحافظ ،
حدثنا أبو محمد الحموي ،حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد بن حميد ،
حدثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي جعفر ،عن الربيع بن انس ، قال : [ كان
النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى قام على رجل و رفع الأخرى ، فأنزل الله
تعالى : طه ـ يع ني طأ الأرض يا محمد ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا
تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى [سورة طه /20:
الأيات 2 : 4 ] .
و لا خفاء بما في هذا كله من الإكرام و حسن المعاملة .
و إن جعلنا طه من أسمائه عليه السلام كما قيل ، أو جعلت قسماً لحق الفصل بما قبله .
و مثل هذا من نمط الشفقة و المبرة قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم
إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ، أي قاتل نفسك لذلك غضباً أو غيظاً ، أو
جزعاً .
و مثله قوله تعالى أيضاً : لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين ، ثم قال :
إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين [ سورة الشعراء /
26 : الآية 4 ] .
و من هذا الباب قوله تعالى : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا
كفيناك المستهزئين * الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون * ولقد
نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [ سورة الحجر / 15 : الآيات 94 : 97 ] .
و قوله : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به
يستهزئون [ سورة الأنعام / 6 : آية 10 ، و سورة الأنبياء / 21 : الآية 41 ]
.
قال مكي : سلاه بما ذكر ، و هون عليه ما يلقى من المشركين ، و أعلمه أن من تمادى على ذلك يحل به ما بمن قبله .
و مثل هذه التسلية قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك [ سورة فاطر / 35 : الآية 4 ] .
و من هذا قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [ سورة الذاريات / 51 : الآية 52 ] .
عزاه الله تعالى بما أخبر به عن الأمم السالفة و مقاليها لأنبيائهم قبله ، و
محنتهم بهم ، و سلاه بذلك من محنته بمثله من كفار مكة ، و أنه ليس أول من
لقي ذلك ، ثم طيب نفسه ، و أبان عذره بقوله تعالى : فتول عنهم ، أي أعرض
عنهم ، فما أنت بملوم ، أي في أداء ما بلغت و إبلاغ ما حملت .
و مثله قوله تعالى : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ، أي اصبر على أذاهم فإنك بحيث نراك و نحفظك .
سلاه الله تعالى بهذا في آي كثيرة من هذا المعنى .

الفصل السابع
فيما أخبر الله تعالى به في كئتابه العزيز من عظيم قدره و شريف منزلته و حظوة رتبته

قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم
جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم
إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [ سورة آل عمران / 3 :
الآية 81 ] .
قال أبو الحسن القابسي : استخص الله تعالى [ 16 ] محمداً صلى الله عليه و
سلم بفضل لم يؤته غيره ، أبانه به ، و هو ما ذكره في هذه الآية ، قال
المفسرون : أخذ الله الميثاق بالوحي ، فلم يبعث نبياً إلا ذكر له محمداً و
نعته ، و أخذ عليه ميثاقه إن أدركه ليؤمنن به .
و قيل : أن يبينه لقومه ، و يأخذ ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم . و
قوله : ثم جاءكم : الخطاب لأهل الكتاب المعاصرين لمحمد صلى الله عليه و سلم
.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لم يبعث الله نبينا من آدم فمن بعده
إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه و سلم : لئن بعث و هو حي ليؤمنن
به و لينصرنه ، و يأخذ العهد بذلك على قومه .
و نحوه عن السدي و قتادة في آي تضمنت فضله من غير وجه واحد .
قال الله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا [ سورة الأحزاب / 33 :
الآية 7 ] .
و قال تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس
وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم
نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس
على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما * لكن الله يشهد بما أنزل
إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [ سورة النساء / 4 :
الآيات 163 ، 166 ] .
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في كلام زكى به النبي صلى الله
عليه و سلم ، فقال بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد بلغ من فضيلتك عند
الله أن بعثك آخر الأنبياء ، و ذكرك في أولهم ، فقال : وإذ أخذنا من
النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم
ميثاقا غليظا [ سورة الأحزاب /33 : الآية 7 ] .
و قال تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح وا لنبيين من بعده
وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس
وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم
نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس
على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما * لكن الله يشهد بما أنزل
إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [سورة النساء / 4 :
الآيات 163 ، 166 ] .
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في كلام زكى به النبي صلى الله
عليه و سلم ، فقال بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد بلغ من فضيلتك عند
الله أن بعثك آخر الأنبياء ، و ذكرك في أولهم ، فقال : وإذ أخذنا من
النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم
ميثاقا غليظا [ سورة الأحزاب /33 : الآية 7 ] .
بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون
أن يكونوا أطاعوك و هم بين أطباقها يعذبون يقولون : يا ليتنا أطعنا الله
وأطعنا الرسولا [ سورة الأحزاب / 33 : الآية 66 ] .
قال قتادة : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنت أول الأنبياء في الخلق
، و آخرهم في البعث ، فلذلك وقع ذكره مقدماً هنا قبل نوح و غيره .
قال السمر قندي : في هذا تفضيل نبياً صلى الله عليه و سلم ، لتخصيصه بالذكر قبلهم ، و هو آخرهم .
المعنى : أخذ الله تعالى عليهم الميثاق ، إذ أخرجهم من ظهر آدم كالذر .
و قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم
درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما
اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا [ سورة البقرة
/ 2 : الآية 253 ] .
قال أهل التفسير : أراد بقوله : ورفع بعضهم درجات ـ محمداً صلى الله عليه و
سلم ، لأنه بعث إلى الأحمر و الأسود ، و أحلت له الغنائم ، و ظهرت على
يديه المعجزات ، و ليس أحد من الأنبياء أعطي فضيلة أو كرامة إلا و قد أعطي
محمد صلى الله عليه و سلم مثلها .
قال بعضهم : و من فضله أن الله تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم ، و خاطبه
بالنبوة و الرسالة في كتابه ، فقال : يا أيها النبي ، و يا أيها الرسول .
و حكى السمر قندي عن الكلبي ـ في قوله تعالى : وإن من شيعته لإبراهيم ـ أن
الهاء عائدة على محم د ، أي أن من شيعة محمد لإبراهيم ، أي على دينه و
منهاجه .
و أجازه الفراء ، و حكاه عنه مكي . و قيل : المراد نوح عليه السلام .

الفصل الثامن
في إعلام الله تعالى خلقه بصلواته عليه و ولايته له و رفعه العذاب بسببه
قال الله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، أي ما كنت بمكة ، فلما
خرج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة ، و بقي من المؤمنين نزل : وما كان
الله معذبهم وهم يستغفرون [ سورة الأنفال / 8 ، الآية 33 ] .
و هذا مثل قوله : لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما [ سورة الفتح / 48 ، الآية 25 ] .
و قوله تعالى : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم
فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء : فلما هاجر
المؤمنون نزلت : وما لهم أن لا يعذبهم الله [ سورة الأنفال / 8 ، الآية 34 ]
.
و هذا من أبين ما يظهر مكانته صلى الله عليه و سلم ، و درأ به العذاب عن
أهل مكة بسبب كونه ، ثم كون أصحابه بعده [ 17 ] بين أظهرهم ، فلما خلت مكة
منهم عذبهم الله بتلسيط المؤمنين عليهم ، و غلبتهم إياهم ، و حكم فيهم
سيوفيهم ، و أورثهم أرضهم و ديارهم و أموالهم .
و في الآية أيضاً تأويل آخر :
حدثنا القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله بقراءتي عليه ، قال : حدثنا أبو
الفضل بن خيرو ن ، و أبو الحسين الصيرفي ، قالا : حدثنا أبو يعلى ابن زوج
الحرة ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد بن محبوب المروزي ، حدثنا أبو
عيسى الحافظ ، حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا ابن نمير ، عن إسماعيل بن
إبراهيم بن مهاجر ، عن عباد بن يوسف ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنزل الله علي أمانين لأمتي ،
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا
مضيت تركت فيهم الإستغفار .
و نحو منه قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية 107 ] .
و قال عليه السلام : أنا أمان لأصحابي . قيل : من البدع .
و قيل : من الإختلاف و الفتن .
قال بعضهم : الرسول صلى الله عليه و سلم هو الأمان الأعظم ما عاش ، و ما
دامت سنته باقية فهو باق ، فإذا أميتت سنته فانتظر البلاء و الفتن .
و قال الله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا
صلوا عليه وسلموا تسليما [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية 56 ] .
أبان الله تعالى فضل نبيه صلى الله عليه و سلم بصلواته عليه ، ثم بصلاة ملائكته ، و أ مر عباده بالصلاة و التسليم عليه .
[ و قد حكى أبوبكر بن فورك أن بعض العلماء تأول قوله عليه السلام : و جعلت
قرة عيني في الصلاة على هذا ، أي في صلاة الله تعالى علي و ملائكته و أمره
الأمة بذلك إلى يوم القيامة ] . و الصلاة من الملائكة [ استغفار ] ، و منا
له دعاء ، و من الله عز و جل رحمة .
و قيل : يصلون : يباركون .
و قد فرق النبي صلى الله عليه و سلم ـ حين علم الصلاة عليه بين لفظ الصلاة و البركة .
و سنذكر حكم الصلاة عليه .
و ذكر بعض المتكلمين في تفسير حروف كهيعص أن الكاف من [ كاف ] ، أي كفاية
الله تعالى لنبيه ، قال تعالى : أليس الله بكاف عبده [ سورة الزمر / 39 ،
الآية 36 ] .
و الهاء هدايته له ، قال : ويهديك صراطا مستقيما [ سورة الفتح / 48 ، الآية 2 ] .
و الياء تأييده ، قال : هو الذي أيدك بنصره [ سورة الأنفال / 8 ، الآية 62 ] .
و العين عصمته له قال : والله يعصمك من الناس [س المائدة / 5 ، الآية 67 ] .
و الصاد : صلواته عليه ، قال : إن الله وملائكته يصلون على النبي [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية 56 ] .
و قال تعالى : وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين
والملائكة بعد ذلك ظهير ، مولاه أي وليه . و صالح المؤمنين : قيل :
الأنبياء . و قيل :
الملائكة . و قيل : أبوبكر ، و عمر .
و قيل : علي . و قيل : المؤمنون على ظاهره .

الفصل التاسع
فيما تضمنته سورة الفتح من كراماته صلى الله عليه و سلم
قال الله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك
وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا *
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله
جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما * ليدخل المؤمنين والمؤمنات
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند
الله فوزا عظيما * ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين
بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم
وساءت مصيرا * ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما * إنا
أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه
وتسبحوه بكرة وأصيلا * إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق
أيديهم [ سورة الفتح / 48 ، الآية 1، 10 ] .
تضمنت هذه الأيات من فضله الثناء عليه و كريم منزلته عند الله تعالى ، و
نعمته لديه ـ ما يقصر الوصف عن الإنتهاء إليه ، فابتدأ جل جلاله ـ بإعلامه
بما قضاه له من القضاء البين بظهور ه ، و غلبته على عدوه ، و علو كلمته و
شريعته ، و أنه مغفور له ، غير مؤاخذ بما كان و ما يكون .
قال بعضهم : أراد غفران ما وقع و ما لم يقع ، أي إنك مغفور لك .
و قال مكي : جعل الله المنة سبباً للمغفرة ، و كل من عنده ، لا إله غيره ، [ 18 ] منةً بعد منة ، و فضلاً بعد فضل .
ثم قال : ويتم نعمته عليك : قيل بخضوع من تكبر عليك .
و قيل : يفتح مكة و الطائف .
و قيل : يرفع ذكرك في الدنيا و ينصرك و يغفر لك ، فأعلمه بتمام نعمته عليه
بخضوع متكبري عدوه له ، و فتح أهم البلاد عليه و أحبها له ، و رفع ذكره ، و
هدايته الصراط المستقيم المبلغ الجنة و السعادة ، و نصره النصر العزيز ، و
منته على أمته المؤمنين بالسكينة و الطمأنينة التي جعلها في قلوبهم ، و
بشارتهم بما لهم بعد ، و فوزهم العظيم ، و العفو عنهم ، و الستر لذنوبهم ، و
هلاك عدوه في الدنيا و الآخرة ، و لعنهم و بعدهم من رحمته ، و سوء منقلبهم
.
ثم قال : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه
وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا [ سورة الفتح /48 ، الآية 8 ، 9 ] .
فعد محاسنه و خصائصه ، من شهادته على أمته لنفسه ، بتبليغه الرسالة لهم .
و قيل : شاهداً لهم بالتوحيد ، و مبشراً لأمته بالثواب . و قيل : بالمغفرة . و منذراً عدوه بالعذاب .
و قيل : محذراً من الضلالات ليؤمنوا بالله ثم به صلى الله عليه و سلم من
سبقت له من الله الحسنى . و يعزروه ، و يجلونه . و قيل : ينصرونه . و قيل :
يبالغون في تعظيمه . و يوقروه ، أي يعظموه .
و قرأه بعضهم : تعززوه ـ بزاءين : من العز ، و الأكثر و الأظهر أن هذا في حق محمد صلى الله عليه و سلم .
ثم قال : وتسبحوه ، فهذا راجع إلى الله تعالى .
قال ابن عطاء جمع للنبي صلى الله عليه و سلم في هذه السور نعم مختلفة ، من
الفتح المبين ، و هو من أعلام الإجابة . و المغفرة ، و هي من أعلام المحبة ،
و تمام النعمة ، و هي من أعلام الإختصاص . و الهداية ، و هي من أعلام
الولاية ، فالمغفرة تبرئة من العيوب ، و تمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة ،
و الهداية و هي الدعوة إلىالمشاهدة .
و قال جعفر بن محمد : من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه ، و أقسم بحياته ، و
نسخ به شرائع غيره ، و عرج به إلى المحل الأعلى ، و حفظه في المعراج حتى
ما زاغ البصر و ما طغى ، و بعثه إلى الأحمر و ا لأسود ، و أحل له و لأمته
الغنائم ، و جعله شفيعاً مشفعاً ، و سيد ولد آدم ، و قرن ذكره بذكره ، و
رضاه برضاه ، و جعله أحد ركني التوحيد .
ثم قال : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ـ يعني بيعة الرضوان ، أي إنما يبايعون الله ببيعتهم إياك .
يد الله فوق أيديهم ، يريد عند البيعة . قيل : قوة الله ، و قيل : ثوابه . و
قيل : منته . وقيل : عقده ، و هذه استعارة ، و تجنيس في الكلام ، و تأكيد
لعقد بيعتهم إياه . و عظم شأن المبايع صلى الله عليه و سلم .
و قد يكون من هذا قوله تعالى : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ
رميت ولكن الله رمى ، و إن كان الأول في باب المجاز ، و هذا في باب الحقيقة
، لأن القاتل و الرامي بالحقيقة هو الله ، و هو خالق فعله و رميه ، و
قدرته عليه و مسببه ، و لأنه ليس في قدرة البشر توصيل تلك الرمية حيث وصلت ،
حتى لم يبق منهم من لم تملأ عينيه ، و كذلك قتل الملائكة لهم حقيقة .
و قد قيل في هذه الآية الأخرى إنها على المجاز العربي ، و مقابلة اللفظ و
مناسبته ، أي ما قتلتموهم ، و ما رميتهم أنت إذ رميت وجوههم بالحصباء و
التراب ، و لكن الله رمى قلوبهم بالجزع ، أي إن [ 19 ] منفعة الرمي كانت من
فعل الله ، فهو القاتل و الرامي بالمعنى و أنت بالاسم .

الفصل العاشر
فيما أظهره الله تعالى في كتابه العزيز من كرامته عليه و مكانته عنده و ما خصه الله به من ذلك سوى ما انتظم فيما ذكرناه قبل
و من ذلك ما قصه تعالى في قصة الإسراء في سورة : سبحان ، و النجم ، و ما
انطوت عليه القصة من عظيم منزلته و قربه و مشاهدته ما شاهد من العجائب .
و من ذلك عصمته من الناس بقوله تعالى : والله يعصمك من الناس . و قوله
تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون
ويمكر الله والله خير الماكرين [ سورة الأنفال / 8 ، الآية 30 ] .
و قوله : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما
في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه
وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا
والله عزيز حكيم . و ما رفع الله به عنه في هذه القصة من أذاهم بعد تحزبهم
لهلكه و خلوصهم نجيا في أمره ، و الأخذ على أبصرهم عند خروجه عليهم ، و
ذهولهم عن طلبه في الغار ، و ما ظهر في ذلك من آيات ، و نزول السكينة عليه ،
و قصة سراقه بن مالك حسب ماذكره أهل الحديث و السير في قصة الغار ، و حديث
الهجر ة .
و منه قوله تعلى : إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر [ سورة الكوثر /8 0] 0
أعلمه الله تعال بما أعطاه . و الكوثر حو ضه . و قيل : نهر في الجنة . و
قيل الخير الكثير . و قيل : الشفاعة . و قيل : المعجزات الكثيرة . و قيل :
النبوة . و قيل : المعرفة . ثم أجاب عنه عدوه ، و رد عليه قوله ، فقال
تعالى : إن شانئك هو الأبتر ، أي عدوك و مبغضك . و الأبتر : الحقير الذليل ،
أو المفرد الوحيد ، أو الذي لاخير فيه . و قال تعال : ولقد آتيناك سبعا من
المثاني والقرآن العظيم [سورة الحجر /15 ، الآية 7 8 ] . قيل : السبع
المثاني السور الطوال الأول . و القرآن العظيم : أم القرآن . و قيل : السبع
المثاني : أم القرآن . و القرآن العظيم : سائره . و قيل : السبع المثاني :
ما في القرآن ، من أمر ، و نهى ، و بشرى ، و إنذار ، و ضرب مثل ، و إعداد
نعم ، و آتيناك نبأ القرآن العظيم .
و قيل : سميت أم القرآن مثاني لأنها تثني في كل ركعة . و قيل : بل الله
تعالى اثتثناها لمحمد صلى الله عليه و سلم ، و ذخرها له دون الأنبياء .
و سمي القرآن مثاني : لأن القصص تثني فيه . و قيل : السبع المثاني :
أكرمناك بسبع كرامات : الهدي ، و النبوة ، و الرحمة ، و الشفاعة ، و
الولاية ، و التعظيم ، و السكينة . و قال : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس
ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ سورة النحل ، الآية /16 ، الآية 44 ] .
و قال : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سورة سبأ / 34 ، الآية
28 ] . و قال تعالى : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له
ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي
الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [ سورة الأعراف / 7 ،
الآية 158 ] .
قال القاضي : فهذه من خصائصه .
و قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فخصهم بقومهم
، و بعث محمداً صلى الله عليه و سلم إلى الخلق كافة ، كما قال عليه السلام
: [ بعثت إلى الأحمر و الأسود ] .
و قال تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم . قال أهل
التفسير : أولى بالمؤمنين من أنفسهم : أي ما أنفذه فيهم من أمر فهو ماض
عليهم كما يمضي حكم السيد على عبده .
و قيل : اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس . و أزواجه أمهاتهم ، أي هن في
الحرمة كالأمهات ، حرم نكاحهن عليهم بعده ، تكرمت له و خصوصية ، و لأنهن
له أزواج في الآخرة .
و قد قرىء : و هو أب لهم . و لا يقرأ به الأن [ 20 ] لمخالفته المصحف .
و قال الله تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم
وكان فضل الله عليك عظيما [ سورة النساء / 4 ، الآية 113 ] .
قيل : فضله العظيم بالنبوة . و قيل : بما سبق له في الأزل . و أشار الواسطي
إلى أنها إشارة إلى احتمال الرؤية التي لم يحتملها موسى ، صلى الله عليهما
.

descriptionكتاب الشفاء .. كامل Emptyرد: كتاب الشفاء .. كامل

more_horiz
الباب الثاني
في تكميل الله تعالى له المحاسن خلقاً و خلقاً و قرانه جميع الفضائل الدينية و الدنيوية فيه نسقاً
اعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم ، الباحث عن تفاصيل
جمل قدره العظيم أن خصال الجلال و الكمال في البشر نوعان : ضروري دنيوي
اقتضته الجبلة و ضرورة الحياة الدنيا ، و مكتسب ديني ، و هو ما يحمد فاعله ،
و يقرب إلى الله تعالى زلفى .
ثم هي على فنين أيضاً : منها ما يتلخص لأحد الوصفين . و منها ما يتمازج و يتداخل .
فأما الضروري المخص فما ليس للمرء فيه اختيار و لا اكتساب ، مثل ما كان في
جبلته من كمال خلقته ، و جمال صورته ، و قوة عقله ، و صحة فهمه ، و فصاحة
لسانه ، و قوة حواسه و أعضائه ، و اعتدال حركاته ، و شرف نسبه ، و عزة قومه
، وكرم أرضه ، و يلحق به ما تدعوه ضرورة حياته إليه ، من غذائه و نومه ، و
ملبسه و مسكنه ، و منكحه ، و ما له و جاهه .
و قد تلحق هذه الخصال الآخرة بالأخروية إذا قصد بها التقوى و معونة البدن
على سلوك طريقها ، و كانت على حدود الضرورة و قوانين الشريعة .
و أما المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية ، و الأداب الشرعية : من
الدين و العلم ، و الحلم ، و الصبر ، و الشكر ، و المروءة ، و الزهد ، و
التواضع ، و العفو ، والعفة ، و الجود ، و الشجاعة ، و الحياء ، و المروءة ،
والصمت ، و التؤدة ، و الوقار ، و الرحمة ، و حسن الأدب و المعاشرة ، و
أخواتها ، و هي التي جمعها حسن الخلق .
و قد يكون من هذه الأخلاق ما هو في الغريزة و أصل الجبلة لبعض الناس .
و بعضهم لا تكون فيه ، فيكتسبها ، و لكنه لابد أن يكون فيه من أصولها في أصل الجبلة شعبة كما سنبينه إن شاء الله .
و تكون هذه الأخلاق دنيوة إذا لم يرد بها وجه الله و الدار الآخرة ، و
لكنها كلها محاسن و فضائل باتفاق أصحاب العقول السليمة ، و إن اختلفوا في
موجب حسنها و تفضيلها .

فصل
في اجتماع الخصال المحمودة فيه صلى الله عليه و سلم
إذا كانت خصال الكمال و الجمال ما ذكرناه ، و وجدنا الواحد منا يشرف بواحدة
منها أو باثنتين إن اتفقت له ـ في كل عصر ، إما من نسب أو جمال ، أو قوة ،
أو علم ، أو حلم ، أو شجاعة ، أو سماحة ، حتى يعظم قدره ، و يضرب باسمه
الأمثال ، و يتقرر له بالوصف بذلك قي القلوب إثرة و عظمة ، و هو منذ عصور
خوال رمم بوال ، فما ظنك بعظيم قدر من اجتمعت فيه كل هذه الخصال إلى ما لا
يأخذه عد ، و لا يعبر عنه مقال ، و لا ينال بكسب و لا حيلة إلا بتخصيص
الكبير المتعال ، من فضيلة النبوة و الرسالة ، و الخلة و المحبة ، و
الإصطفاء و الإسراء و الرؤية ، و القرب و الدنو ، و الوحي ، و الشفاعة و
الوسيلة ، و الفضيلة و الدرجة الرفيعة ، و المقام المحمود ، و البراق و
المعراج ، و البعث إلى الأحمر و الأسود ، و الصلاة بالأنبياء ، و الشهادة
بين الأنبياء و الأمم ، و سيادة ولد آدم [ 21 ] ، و لواء الحمد ، و البشارة
، و النذارة و المكانة عند ذي العرش و الطاعة ثم ، و الأمانة و الهداية و
رحمة للعالمين ، و إعطاء الرضا و السول ، و الكوثر ، و سماع القول ، و
اتمام النعمة و العفو عما تقدم و تأخر ، و شرح الصدر ، و وضع الوزر ، و رفع
الذكر و عزة النصر ، و نزول السكينة ، و التأييد بالملائكة ، و إيتاء
الكتاب و الحكمة و السبع المثاني و القرآن العظيم ، و تزكية الأمة و الدعاء
إلى الله ، و صلاة الله تعالى و الملائكة ، و الحكم بين الناس بما أراه
الله ، و وضع الإصر و الأغلال عنهم ، و القسم باسمه ، و إجابة دعوته ، و
تكليم الجمادات و العجم ، و إحياء الموتى ، و إسماع الصم ، و نبع الماء من
بين أصابعه ، و تكثير القلي ل ، و انشفاق القمر ، و رد الشمس ، و قلب
الأعيان ، و النصر بالرعب ، و الإطلاع على الغيب ، و ظل الغمام ، و تسبيح
الحصا ، و إبراء الآلام ، و العصمة من الناس ، إلى ما لا يحويه محتفل ، و
لا يحيط بعلمه إلا مانحه ذلك و مفضله به ، لا إله غيره ، إلى ما أعد له في
الدار الآخرة من منازل الكرامة ، و درجات القدس ، و مراتب السعادة و الحسنى
و الزيادة التي تقف دونها العقول و يحار دون أدانيها الوهم .

فصل
في تفصيل هذه الخصال المحمودة : صفاته الجسمية
إن قلت أكرمك الله : لا خفاء على القطع بالجملة أنه صلى الله عليه و سلم
أعلى الناس قدراً ، و أعظمهم محلاً ، و أكملهم محاسن و فضلاً ، و قد ذهب في
تفاصيل خصال الكمال مذهباً جميلاً شوقني إلى أن أقف عليها من أوصافه صلى
الله عليه و سلم تفصيلا . . . فاعلم نور الله قلبي و قلبك ، و ضاعف في هذا
النبي الكريم حبي و حبك ـ أنك إذا نظرت إلى خصال الكمال التي هي غير مكتسبة
في جبلة الخلقة و جدته حائزاً لجميعها ، محيطاً بشتات محاسنها دون خلاف
بين نقله الأخبار لذلك ، بل قد بلغ بعضها مبلغ القطع . أما الصورة و جمالها
، و تناسب أعضائه في حسنها ، فقد جاءت الآثار الصحيحة و المشهورة الكثيرة
بذلك ، من حديث علي ، و أنس بن مالك ، و أبي هريرة ، و البراء بن عذب ، و
عائشة أم المؤمنين ،و ابن أبي هالة ،و أبي جحيفة ، وجابر بن سمرة ، و أم
معبد ، و ابن عباس ، و معرض بن معيقيب ، و أبي الطفيل ، و العداء بن خالد ،
و خريم بن فاتك ، و حكيم بن حزام ، و غيرهم ، من أنه صلى الله عليه و سلم
كان أزهر اللون ، أدعج ، أنجل ، أشكل ، أهدب الأشفار ، أبلج ، أزج ، أقنى ،
أفلج ، مدور ال وجه ، واسع الجبي ، كث اللحية تملأ صدره ، سواء البطن و
الصدر ، واسع الصدر ، عظيم المنكبين ، ضخم العظام ، عبل العضضين و الذراعين
و الأسافل ، رحب الكفين و القدمين ، سائل الأطراف ، أنور المتجرد ، دقيق
المسربة ، ربعة القد ، ليس بالطويل البائن ، و لا بالقصير المتردد ، مع ذلك
فلم يكن يماشيه أحد ينسب الى الطول إلا طاله صلى الله عليه و سلم رجل
الشعر ، إذا افتر ضاحكاً افتر عن مثل سنا البرق ، و عن مثل حب الغمام ، إذا
تكلم رئى كالنور يخرج من ثناياه ، أحسن الناس عنقاً ، ليس بمعطهم و لا
مكلثم ، متماسك البدن ، ضرب اللحم . قال البراء بن عاذب : مارأيت من ذي لمه
في حلة حمراء أحسن من رسول صلى الله عليه و سلم [0 1 ] .
و قال أبو هريرة رضي الله عنه : [ مارأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله
عليه و سلم [22] ، كأن الشمس تجري في وجهه ، و إذا ضحك يتلألأ في الجدر ] .

و قال جابر بن سمرة ـ و قال له رجل : كان و جهه صلى الله عليه و سلم مثل
السيف ؟ فقال : [ لا ، بل مثل الشمس و القمر . و كان مستديراً] .
و قالت أم معبد ـ في بعض ما وصفته به ـ : [ أجمل الناس من بعيد ، و أحلاه و
أحسنه من قريب ] [ صلى الله عليه و سلم تسليمًا كلما ذكره الذاكرون ، و
غفل عن ذكره الغافلون ] . و في حديث ابن أبي هالة : [ يتلألأ وجهه تلألأ
القمر ليلة البدر ] . و قال علي رضي الله عنه في آخر و صفة له : [ من
رآه بديهة هابه ، و من خالطه معرفة أحبه ، يقول ناعته : لم أر قبله و لا
بعده مثله صلى الله عليه و سلم ] . و الأحاديث في بسط صفته مشهورة
كثيرة ، فلا نطول بسردها . و قد اختصرنا في و صفه نكت ما جاء فيها ، و
جملة مما فيه الكفاية في القصد إلى المطلوب ، و ختمنا هذه الفصول بحديث
جامع لذلك تقف عليه هناك إن شاء الله .


فصل
في نظافة جسمه ، و طيب رائحته ، و نزاهته عن الأقذار و عورات الجسد
و أما نظافة جسمه ، و طيب ريحه و عرقه ، و نزاهته عن الأقذار و عورات الجسد
ـ فكان قد خصه الله في ذلك بخصائص لم توجد في غيره ، ثم تممها بنظافة
الشرع و خصال الفطرة العشر ، و قال : [ بني الدين على النظافة ] .
حدثنا سفيان بن العاصي و غير واحد ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر . حدثنا أبو
العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ،
قال : حدثنا قتيبة ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : [
ما شممت عنبراً قط ، و لا مسكاً ، و لا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى
الله عليه و سلم ] .
و عن جابر بن سمرة : أنه صلى الله عليه و سلم مسح خده ، قال : فوجدت ليده برداً و ريحاً ، كأنما أخرجها من جونة عطار .
قال غيره : مسها بطيب أو لم يمسها ، يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها ، و يضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها .
و نام رسول الله صلى الله عليه و سلم في دار أنس فعرق ، فجاءت أمه بقارورة
تجمع فيها عرقه فسألها رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك ، فقالت :
نجعله في طيبنا ، و هو من أطيب الطيب .
و ذكر البخاري في تاريخه الكبير ، عن جابر : [ لم يكن النبي صلى الله عليه و
سلم يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه ] .
و ذكر اسحاق بن راهويه أن تلك كانت رائحته بلا طيب ، صلى الله عليه و سلم .
[ و روى المزني : عن جابر : أردفني النبي صلى الله عليه و سلم خلفه ، فالتقمت خاتم النبوة بفمي ، فكان ينم على مسكا ] .
و قد حكى بعض المعتنين بأخباره و شمائله صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا
أراد أن يتغوط انشقت الأرض فابتلعت غائطه و بوله ، و فاحت لذلك رائحة طيبة .
صلى الله عليه و سلم .
[ و أسند محمد بن سعد كاتب الواقدي في هذا خبراً عن عائشة رضي الله عنها
أنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم : إنك تأتي الخلاء فلا نرى منك شيئاً
من الأذى ! فقال : يا عائشة ، أو ما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من
الأنبياء ، فلا يرى منه شيء ] .
و هذا الخبر ، و إن لم يكن مشهوراً فقد قال قوم من أهل العلم بظهارة
الحدثين منه صلى الله عليه و سلم . و هو قول بعض أصحاب الشافعية ، [ حكاه
الإمام أبو نصر ابن الصباغ في شامله ] .
و قد حكى القولين عن العلماء في ذلك أبو بكر بن سابق المالكي في كتابه
البديع في فروع المالكية ، و تخريج ما لم يقع لهم منها على مذهبهم من
تفاريع الشافعية .
و شاهد هذا أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن منه شيء يكره ، و لا غير طيب .
و منه حديث علي رضي الله عنه : [ غسلت النبي صلى الله عليه و سلم ،
فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أجد شيئاً ، فقلت : طبت حياً و ميتاً ،
قال : و سطعت منه ريح طيبة لم نجد مثلها قط ] .
و مثله قال أبوبكر رضي الله عنه حين قبل النبي صلى الله عليه و سلم بعد موته .
و منه شرب مالك بن سنان دمه يوم أحد ، و مصه إياه [23 ] ، و تسويغه صلى الله عليه و سلم ذلك له ، و قوله : لن تصيبه النار .
و مثله شرب عبد الله بن الزبير دم حجامته ، فقال له عليه السلام : ويل لك من الناس ، و ويل لك منك و لم ينكره عليه .
و قد روي نحو من هذا عنه في امرأة شربت بوله ، فقال لها : لن تشتكي وجع
بطنك أبداً . و لم يأمر واحداً منهم بغسل فم ، و لا نهاه عن عودة .
و حديث هذه المرأة التي شربت بوله صحيح ألزم الدار قطني مسلماً و البخاري
إخراجه في الصحيح ، و اسم هذه المرأة بركة . و اختلف في نسبها .
و قيل : هي أم أيمن : و كانت تخدم النبي صلى الله عليه و سلم ، قالت : و
كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم قدح من غيدان يوضع تحت سريره يبول فيه
من الليل ، فبال فيه ليلة ، ثم افتقده ، فلم يجد فيه شيئاً . فسأل بركة عنه
، فقالت : قمت و أنا عطشانة فشربته و أنا لا أعلم .
روى حديثها ابن جريج و غيره .
و كان صلى الله عليه و سلم قد ولد مختوناً مقطوع السرة .
[ و روي عن أمه آمنة أنها قالت : قد ولدته نظيفاً ما به قذر ] .
و عن عائشة رضي الله عنها : [ ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه و سلم قط ] .
و عن علي رضي الله عنه : أوصاني النبي صلى الله عليه و سلم لا يغسله غيري ، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه .
و في حديث عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : [ أنه نام حتى سمع له غطيط
، فقام فصلى و لم يتوضأ ] ، قال عكرمة : لأنه صلى الله عليه و سلم كان
محفوظاً .

فصل
وفور عقله ، وقوة حواسه ، و فصاحة لسانه
و أما وفور عقله ، و ذكاء لبه ، و قوة حواسه ، و فصاحة لسانه ، و اعتدال
حركاته ، و حسن شمائله ـ فلا مرية أنه كان أعقل الناس و أذكاهم .
و من تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق و ظواهرهم ، و سياسة العامة و الخاصة ،
مع عجيب شمائله ، و بديع سيره ، فضلاً عما أفاضه من العلم ، و قرره من
الشرع دون تعلم سبق ، و لا ممارسة تقدمت ، و لا مطالعة للكتب منه ، لم يمتر
في رجحان عقله ، و ثقوب فهمه لأول بديهة ، و هذا ما لا يحتاج إلى تقريره
لتحقيقه .
و قد قال وهب بن منبه : قرأت في أحد و سبعين كتاباً ، فوجدت في جميعها أن
النبي صلى الله عليه و سلم أرجح الناس عقلاً ، و أفضلهم رأياً .
و في رواية أخرى : فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء
الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه و سلم إلا كحبة
رمل من بين رمال الدنيا .
و قال مجاهد : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام في الصلاة يرى
من خلفه كما يرى من بين يديه ] . و به فسر قوله تعالى : وتقلبك في الساجدين
.
و في الموطأ عنه عليه السلام : إني لأراكم من وراء ظهري .
و نحوه ـ عن أنس في الصحيحين ، و عن عائشة مثله ، قالت : زيادة زاده الله إياها في حجته .
و في بعض الروايات : إني لأنظر من ورائي كما أنظر من بين يدي .
و في أخرى : إني لأبصر من قفاي كما أبصر من بين يدي .
و حكى بقي بن مخلد ، عن عائشة ، قالت : كان النبي صلى الله عليه و سلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء .
و الأخبار كثيرة صحيحة في رؤيته صلى الله عليه و سلم للملائكة و الشياطين .
و رفع النجاشي له حتى صلى عليه ، و بيت [ 24 ] المقدس حين وصفه لقريش و الكعبة حين بنى مسجده .
و قد حكي عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يرى في الثريا أحد عشر نجماً .
و هذه كلها محمولة على رؤية العين ، و هو قول أحمد بن حنبل و غيره .
و ذهب بعضهم إلى ردها إلى العلم ، و الظواهر تخالفه ، و لا إحالة في ذلك ، و
هي من خواص الأنبياء و خصالهم ، كما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد
العدل من كتابه ، حدثنا أبو الحسن المقري الفرغاني ، حدثتنا أم القاسم بنت
أبي بكر عن أبيها ، حدثنا الشريف أبو الحسن علي بن محمد الحسني ، حدثنا
محمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمدبن أحمد بن سليمان ، حدثنا محمد بن محمد
بن مرزوق ، حدثنا همام ، قال : حدثنا الحسن ، عن قتادة ، عن يحيى بن وثاب ،
عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : لما تجلى الله لموسى
عليه السلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة
فراسخ : و لا يبعد على هذا أن يختص نبينا بما ذكرناه من هذا الباب بعد
الإسراء و الحظوة بما رأى من أيات ربه الكبرى .
و قد جاءت الأخبار بأنه صرع أبا ركانة أشد أهل وقته ، و كان دعاه إلى
الإسلام و صارع أبا ركانة في الجاهلية ، و كان شديداً ، و عاوده ثلاث مرات ،
كل ذلك يصرعه رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قال أبو هريرة : ما رأيت أحداً أسرع من رسول الله صلى الله عليه و سلم في
مشيه ، كأنما الأرض تطوى له ، إنا لنجهد أنفسنا و هو غير مكترث .
و في صفته أنه ضحكه كان تبسماً ، إذا إلتفت إلتفت معاً ، و إذا مشى مشى تقلعاً كأنما ينحط من صبب .
فصل
فصاحة لسانه ، و بلاغة قوله
و أما فصاحة اللسان ، و بلاغة القول ، فقد كان صلى الله عليه و سلم من ذلك
بالمحل الأفضل و الموضع الذي لايجهل ، سلاسة طبع ، و براعة منزع ، و إجاز
مقطع ، و نـصاعة لـفظ .
و جزالة قول ، و صحة معان ، و قلة تكلف ، أوتي جوامع الكلم ، و خص ببدائع
الحكم ، و علم ألسنة العرب ، يخاطب كل أمة منها بلسانها ، و يحاورها بلغتها
، و يباريها في منزع بلاغتها ،حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن
عن شرح كلامه و تفسير قوله . و من تأمل حديثه و سيره علم ذلك و
تحققه ، و ليس كلامه مع قريش و الأنصار ، و أهل الحجاز و نجد ككلامه مع [
ذي المشعار الهمداني ، و طهفه الهندي ] ، و قطن بن حارثة العليمي ، و الأ
شعث بن قيس ، و وائل بن حجر الكندي ، و غيرهم من أقيال حضرموت و ملوك اليمن
. و انظر كتابة إلى همدان : إن لكم فراعها و وهاطها و عزازها ، تأ
كلون علافها و ترعون عفاءها ، لنا من دفئهم و صرامهم ماسلموا بالميثاق و
الأمانة ، و لهم من الصدقة الثلب و الناب و الفصيل ، و الفارض و الداجن ، و
الكبش الحوري ، و عليهم فيها الصالغ و القرح .
و قوله لنهد : اللهم بارك لهم في محضها و مخضها و مذقها ، و ابعث راعيها في
الدثر ، و افجر له الثمد ، و بارك له في المال و الولد ، من أقام الصلاة
كان مسلماً ، و من آتىالزكاة كان محسناً ، و من شهد أن لا إله إلا الله كان
مخلصاً ، لكم يابني نهد و دائع الشرك ، و وضائع الملك ، لاتلطط في الزكاة ،
و لا تلحد في الحياة ، و لا تتثاقل عن الصلاة . و كتب لهم : في
الوظيفة الفريضة : و لكم الفارض و الفريش ، و ذو العنان الركوب ، و الفلو
الضبيس ، [ 5 2 ] ، لايمنع سرحكم ، و لا يعضد طلحكم ، و لا يحبس دركم ما لم
تضمروا الرماق ، و تأكلوا الرباق ، من أقر فله الوفاء بالعهد و الذمة ، و
من أبي فعليه الربوة .
و من كتابه لوائل بن حجر .
إلى الأقيال العباهلة ، و الأرواع المشابيب . و فيه : في التيعة شاة ، لا
مقورة الألياط و لا ضناك ، و أنطوا الثبجة ، و في السيوب الخمس . و من زنى
مم بكر فاصعقوه مائة ، و استوفضوه عاماً ، و من زنى مم ثيب فضرجوه
باللأضاميم ، و لا توصيم في الدين و لا غمة في فرائض الله ، و كل مسكر حرام
. و وائل بن حجر يترفل على الأقيال . أين هذا من كتابة لأنس في
الصدقة المشهور . لما كان كلام هؤلاء على هذا الحد ، و ب لاغتهم على هذا
النمط ، و أكثر استعمالهم هذه الألفاظ استعملها معهم ، ليبين للناس ما نزل
إليهم ، و ليحدث الناس بما يعلمون . و كقوله في حديث عطية السعدي : [
فإن اليد العليا هي المنطية و اليد السفلى هي المنطاة ] . قال :
فكلمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بلغتنا . و قوله في حديث
العامري حين سأله ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : سل عنك أي
سل عم شئت ، و هي لغة بني عامر . و أما كلامه المعتاد ، و فصاحته
المعلومة ، و جوامع كلمه ، و حكمة المأثورة ـ فقد ألف الناس فيها الدواوين و
جمعت في ألفاظها و معانيها الكتب ، و فيها ما لا يوازي فصاحة ، و لا يباري
بلاغة ، كقوله : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، و يسعى بذمهم أدناهم ، و هم يد
على من سواهم . و قوله : الناس كأسنان المشط .
و المرء مع من أحب .
و لا خير في صحبة من لايرى لك ما ترى له .
و الناس معادن .
و ما هلك امروء عرف قدره . و المستشار مؤتمن ، و هو بالخير ما لم يتكلم . و
رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم . و قوله : أسلم تسلم ، و
أسلم يؤتك الله أجرك مرتين . و إن أحبكم إلي و أقربكم مني مجالس يوم
القيامة ، أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون و يؤلفون .
و قوله : لعله كان يتكلم بما لا يعنيه ، و يبخل بما لا يغنيه . و
قوله : ذو الوجهين لا يكون عند الله و جيهاً . و نهيه عن قيل و قال ،
و كثرة السؤال ، و إضاعة المال ، و منع و هات ، و عقوق الأمهات ، و وأد
البنات . و قوله : اتق الله حيثما كنت ، و أتبع السيئة الحسنة تمحها ،
و خالق الناس بخلق حسن .
و قوله : و خير الأمور أوسطها .
و قوله : أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما .
و قوله : الظلم ظلمات يوم القيامة .
و قوله في بعض دعائه : اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي ، و
تجمع بها أمري ، و تلم بها شعثي ، و تصلح بها غائبي و ترفع بها شاهدي ، و
تزكي بها علمي ، و تلهمني بها رشدي ، و ترد بها ألفتي ، و تعصمني بها من كل
سوء .
اللهم إني أسألك الفوز في القضاء ، و نزل الشهداء ، و عيش السعداء ، و النصر على الأعداء .
إلى ما روته الكافة عن الكافة عن المقاماته ، و محاض راته ، و خطبه ، و
أدعيته ، و مخاطباته ، و عهوده ، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس
بها غيره ، و حاز فيها سبقاً لا يقدر . و قد جمعت من كلماته التي لم يسبق
إليها ، و لا قدر أحد أن يفرغ في قالبه [ 26 ]عليها ، كقوله : حمي الوطيس .

و مات حتف أنفه و لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .
و السعيد من و عظ بغيره . . في أخواته مما يدرك الناظر العجب في مضمنها ، و يذهب به الفكر في أداني حكمها .
و قد قال له أصحابه : ما رأينا الذي هو أفصح منك . فقال : و ما يمنعني ؟ و إنما أنزل القرآن بلساني ، لسان عربي مبين .
و قال مرة أخرى : بيد أني من قريش و نشأت في بني سعد .
فجمع له بذلك صلى الله عليه و سلم قوة عارضة البادية و جزالتها ، و نصاعة
ألفاظ الحاضرة و رونق كلامها ، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي الذي لا
يحيط بعلمه بشري .
و قالت أم معبد في وصفها له :
حلو المنطق ، فضل لا نزر و لا هذر ، كأن منطقه خرزات نظمن . و كان جهير الصوت ، حسن النعمة صلى الله عليه و سلم .

فصل
شرف نسبه ، و كرم بلده و منشئه
و أما شرف نسبه و كرم بلده و منشئه فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه ، و
لا بيان مشكل و لا خفي منه ، فإنه نخبة من بني هاشم ، و سلالة قريش و
صميمها ، و أشرف العرب ، و أعزهم نفراً من قبل أبيه و أمه ، و من أهل مكة
من أكرم بلاد الله على الله و على عباده .
حدثنا قاضي القضاة حسين بن محمد الصدفي رحمه الله ، قال : حدثنا القاضي أبو
الوليد سليمان بن خلف ، حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد ، حدثنا أبو محمد
السرخسي ، و ابن إسحاق ، و أبو الهيثم : قالوا : حدثنا محمد بن يوسف ، قال
حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب بن
عبد الرحمن ، عن عمرو ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ـ أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم قال : بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا ، حتى كنت
من القرن الذي كنت منه .
و عن العباس ، قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله خلق الخلق
فجعلني من خيرهم ، من خير قرنهم ، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ،
ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً ، و خيرهم بيتاً .

و عن واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله
اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، و اصطفى من بني كنانة قريشاً و اصطفى من
قريش بني هاشم ، و اصطفاني من بني هاشم .
قال الترمذي : و هذا حديث صحيح .
و في حديث عن ابن عمر ، رواه الطبري أنه صلى الله عليه و سلم قال : إن الله
اختار خلقه ، فاختار منهم بني آدم ، ثم اختار بني آدم فاختار منهم العرب ،
ثم اختار العرب فاختار منهم قريشاً ، ثم اختار قريشاً فاختار منهم بني
هاشم ، ثم اختار بني هاشم فاختارني منهم ، فلم أزل خياراً من خيار ، ألا من
أحب العرب فبحبي أحبهم ، و من أبغض العرب فببغضي أبغضهم .
و عن ابن عباس : إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم
بألفي عام ، يسبح ذلك النور ، و تسبح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله آدم
ألقى ذلك النور في صلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فأهبطني
الله إلى الأرض في صلب آدم ، و جعلني في صلب نوح ، و قذف بي في صلب ابراهيم
، ثم لم يزل الله تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة و الأرحام الطاهرة ،
حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط . و يشهد لصحة هذا الخبر شعر
الع باس في مدح النبي صلى الله عليه و سلم المشهور .

فصل
فيما تدعو إليه ضرورة الحياة إليه
على ثلاثة ضروب
الضرب الأول
ما التمدح و الكمال بقلته اتفاقاً
[ 27 ] و أما ما تدعو ضرورة الحياة إليه مما فصلناه فعلى ثلاثة ضروب : ضرب
الفضل في قلته ، و ضرب الفضل في كثرته ، و ضرب تختلف الأحوال فيه .
فأما ما التمدح و الكمل بقلته اتفاقاً ، و على كل حال ، عادة و شريعة ،
كالغذاء و النوم ، و لم تزل العرب و الحكماء تتمادح بقلتهما ، و تذم
بكثرتهما ، لأن كثرة الأكل و الشرب دليل على النهم و الحرص و الشره ، و
غلبة الشهوة مسبب لمضارالدنيا و الآخرة ، جالب لأدواء الجسد و خثار النفس ،
و امتلاء الدماغ ، و قلته دليل على القناعة ، و ملك النفس ، و قمع الشهوة
مسبب للصحة ، و صفاء الخاطر ، و حدة الذهن ، كما أن كثرة النوم دليل على
الفسولة و الضعف ، و عدم الذكاء و الفطنة ، مسبب للكسل ، و عادة العجز ، و
تضييع العمر في غير نفع ، و قساوة القلب و غفلته و موته .
و الشاهد على هذا ما يعلم ضرورة ، و يوجد مشاهدة ، و ينقل متوتراً من كلام
الأمم المتقدمة ، و الحكماء السابقين ، و أشعار العرب و أخبارها ، و صحيح
الحديث ، و آثار من سلف و خلف ، مما لا يحتاج إلى الإستشهاد عليه اختصا راً
و اقتصاراً على اشتهار العلم به .
و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أخذ من هذين الفنين بالأقل .
هذا ما لا يدفع من سيرته ، و هو الذي أمر به ، و حض عليه ، لاسيما بارتباط أحدهما بالآخر .
حدثنا أبو علي الصدفي الحافظ بقراءتي عليه ، حدثنا أبو الفضل الأصبهاني ،
حدثنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أبو بكر بن سهل ،
حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح أن يحيى بن جابر حدثه عن
المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما ملأ ابن
آدم وعاء شراً من بطنه ، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة
فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، و ثلث لنفسه .
و لأن كثرة النوم من كثرة الأكل و الشرب .
قال سفيان الثوري : بقلة الطعام يملك سهر الليل .
و قال بعض السلف : لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً ، فترقدوا كثيراً ، فتخسروا كثيراً .
و قد روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان أحب الطعام إليه ما كان على ضعف ،
أي كثرة الأيدي . و عن عا ئشة رضي الله عنها : لم يمتلىء جوف النبي صلى
الله عليه و سلم شبعاً قط ، و أنه كان في أهله لا يسألهم طعاماً و لا
يتشهاه ، إن أطعموه أكل ، و ما أطعموه قبل ، و ما سقوه شرب .
و لا يعترض على هذا بحديث بريرة ، و قوله : ألم أر البرمة فيها لحم إذ لعل
سبب سؤاله ظنه صلى الله عليه و سلم اعتقاده أنه لا يحل له ، فأراد بيان
سنته ، إذ رآهم لم يقدموه إليه ، مع علمه أنهم لا يستأثرون عليه به ، فصدق
عليهم ظنه ، و بين لهم ما جهلوه من أمره بقوله : هو لها صدقة و لنا هدية
و في حكمه لقمان : يابني ، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، و خرست الحكمة ، و قعدت العضاء عن العبادة .
و قال سحنون : لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع .
و في صحيح الحديث قوله صلى الله عليه و سلم : أما أنا فلا آكل متكئاً .
و الإتكاء : هو التمكن للأكل ، و التقعدد في الجلوس له كالمتربع ، و شبهه
من تمكن الجلسات التي يعتمد عليها الجالس على ماتحته [ 28 ] ، و الجالس على
هذه الهيئة يستدعي الأكل و يستكثر منه .
و النبي صلى الله عليه و سلم إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفز مقعياً ، و
يقول : إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، و أجلس كما يجلس العبد .
و ليس معنى الحدث في الإتكاء الميل على شق عند المحققين .
و كذلك نومه صلى الله عليه و سلم كان قليلاً ، شهدت بذلك الآثارالصحيحة ، و مع ذلك فقد قال : إن عيني تنامان و لا ينام قلبي .
وكان نومه على جانبه الأيمن استظهاراً على قلة النوم ، لأنه على جانب
الأيسر أهنأ ، لهدو القلب و ما يتعلق به من الأعضاء الباطنية حينئذ ،
لميلها إلى الجانب الأيسر ، فيستدعي ذلك الإستثقال فيه و الطول .
و إذا نام النائم على الأيمن تعلق القلب و قلق ، فأسرع الإفاقة و لم يغمره الإستغراق .

فصل
الضرب الثاني : ما يتفق على المدح بكثرته
و الضرب الثاني ما يتفق المدح بكثرته ، و الفخر بوفوره ، كالنكاح و الجاه :
أما النكاح فمتفق فيه شرعاً و عادة ، فإنه دليل الكمال ، و صحة الذكورية ،
و لم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة ، و التمادح به سيرة ماضية .
و أما في الشرع فسنة مأثورة ، و قد قال ابن عباس : أفضل هذه الأمة أكثرها نساء يشير إليه صلى الله عليه و سلم .
و قد قال عليه السلام : تناكحوا تناسلوا ، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة .
و نهى عن التبتل مع ما فيه من قمع الشهوة ، و غض البصر اللذين نبه عليهما
صلى الله عليه و سلم بقوله : من كان ذا طول فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، و
أحصن للفرج حتى لم يره العلماء مما يقدح في الز هد .
قال سهل بن عبد الله : قد حببن إلى سيد المرسلين ، فكيف يزهد فيهن ؟ و نحوه لابن عيينه .
و قد كان زهاد الصحابة كثيري الزوجات و السراري ، كثيري النكاح .
و حكي في ذلك على علي ، و الحسن ، و ابن عمر ، و غيرهم غير شيء .
و قد كره غير و احد أن يلقى الله عزباً .
فإن قلت : كيف يكون النكاح و كثرته من الفضائل ، و هذا يحيى بن زكريا عليه
السلام قد أثنى ال له تعالى عليه أنه كان حصوراً ، فكيف يثني الله بالعجز
عما تعده فضيلة ؟ .
و هذا عيسى عليه السلام تبتل عنه النساء ، و لو كان كما قررته لنكح ؟
فاعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصور ليس كما قال بعضهم :
إنه كان هيوباً ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين و نقاد العلماء ،
و قالوا : هذه تقيصة و عيب ، و لا تليق بالأنبياء .
و إنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي لا تأتيها ، كأنه حصر عنها . و قيل :
مانعاً نفسه من الشهوات .
و قيل : ليست له شهرة في النساء .
فقد بان ذلك من هذا أن عدم القدر على النكاح نقص ، و إنما الفضل في كونها
موجودة ، ثم قمعها ، إما بمجاهدة ، كعيسى عليه السلام ، أو بكفاية من الله
تعالى ، كيحيى عليه السلام ـ فضيلة زائدة لكونها شاغلة في كثير من الأوقات
حاطة إلى الدنيا . ثم هي في حق من أقدر عليها و ملكها و قام بالواجب فيها ،
و لم تشغله عن ربه ـ درجة عالياً ، و هي درجة نبينا صلى الله عليه و سلم
الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن ، و قيامه
بحقوقهن ، و اكتسابه لهن ، و هدايته إياهن ، بل صرح أنها ليست من حظوظ
[29] دنياه هو ، و إن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : حبب إلي من دنياكم .
فدل على أن حبه لما ذكر من النساء و الطيب اللذين هما من أمور دنيا غيره ،
و استعماله لذلك ليس لدنياه ، بل لآخرته ، للفوائد الذي ذكرناها في
التزويج ، و للقاءالملائكة في الطيب ، و لأنه أيضاً مما يحض على الجماع ، و
يعين عليه ، و يحرك أسبابه .
و كان حبه لهاتين الخصلتين لأجل غيره ، و قمع شهوته ، و كان حبه الحقيقي
المختص بذاته في مشاهدته جبروت مولاه و مناجاته ، و لذلك ميز بين الحبين ، و
فصل بين الحالين ، فقال : و جعلت قرة عيني في الصلاة ، فقد ساوى يحيى و
عيسى في كفاية فتنتهن ، و زاد فضيلة بالقيام بهن .
و كان صلى الله عليه و سلم ممن أقدر على القوة في هذا ، و أعطي الكثير منه ، و لهذا أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره .
و قد روينا عن أنس أنه صلى الله عليه و سلم كان يدور على نسائه في الساعة من الليل و النهار ، و هن إحدى عشرة .
و عن طاوس : أعطي عليه السلام قوة أربعين رجلاً في الجماع .
و مثله عن صفوان بن سليم .
و قالت سلمى مولاته : طاف النبي صلى الله عليه و سلم ليلة على نسائه التسع ،
و تطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخر ى ، و قال : هذا أطيب و أطهر .
قال أنس : و كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلاً . خرجه النسائي ، و روي نحوه عن أبي رافع .
و قد قال سليمان ـ عليه السلام : [ لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع و تسعين ] و أنه فعل ذلك .
قال ابن عباس : كان في ظهر سليمان ماء مائة رجل أو تسع و تسعين ، و كانت له ثلاثمائة امرأة و ثلاثمائة سرية .
و حكى النقاش و غيره سبعمائة امرأة و ثلاثمائة سرية .
و قد كان لداود عليه السلام على زهده و أكله من عمل يده تسع و تسعون امرأة ، و تمت بزوج أوريا مائة .
و قد نبه على ذلك في الكتاب العزيز بقوله تعالى : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة [ سورة ص / 38 ، الآية : 23 ] .
و في حديث أنس عنه ، عليه السلام : فضلت على الناس بأربع : بالسخاء ، و الشجاعة ، و كثرة الجماع ، و قوة البطش .
و أما الجاه فمحمود عند العقلاء عادة و بقدر جاهه عظمه في القلوب .
و قد قال الله تعالى في صفة عيسى عليه السلام : وجيها في الدنيا والآخرة ،
لكن آفاته كثيرة ، فهو مضر لبعض الناس لعقبى الأخرة ، فلذلك ذمه من ذمه ، و
مدح ضده .
و ورد في الشرع مدح الخمول ، و ذم العلو في الأرض .
و كان صلى الله عليه و سلم قد رزق من الحشمة ، و المكانة في القلوب ، و
العظمة قبل النبوة عند الجاهلية و بعدها ، و هم يكذبونه و يؤذون أصحابه ، و
يقصدون أذاه في نفسه خفية حتى إذا واجههم أعظموا أمره ، و قضوا حاجته .
و أخباره في ذلك معروفة سيأتي بعضها .
و قد كان يبهت و يفرق لرؤيته من لم تره ، كما روي عن قيلة أنها لما رأته أرعدت من الفرق ، فقال : يا مسكينة ، عليك السكينة .
و في حديث أبي مسعود أن رجلاً قام بين يديه فأرعد ، فقال : هون عليك فإني لست بملك .. لحديث .
فأما عظم قدره بالنبوة ، و شريف منزلته بالرسالة ، و إنافة رتبته بالإصطفاء
و الكرامة في الدنيا فأمر هو مبلغ النهاية ، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم .

و على معنى هذا الفصل نظمنا هذا القسم بأسره .
فصل
الضرب الثالث : ما تختلف الحالات في التمدح به
و أما الضرب الثالث ، فهو ما تختلف الحالات في التمدح به و التفاخر بسببه ،
و التفضيل [ 30 ] لأجله ، ككثرة المال ـ فصاحبه على الجملة معظم عند
العامة ، لإعتقادها توصله به إلى حاجاته ، و تمكن أغراضه بسببه ، و إلا
فليس فضيلة في نفسه ، فمتى كان المال بهذه الصورة ، و صاحبه منفقاً له في
مهمات من اعتراه و أمله ، و تصريفه في مواضعه مشترياً به المعالي و الثناء
الحسن ، و المنزلة في القلوب ـ كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا ، و إذا
صرفه في وجوه البر ، و أنفقه في سبيل الخير ، و قصد بذلك الله و الدار
الآخرة ، كان فضيلة عند الكل بكل حال ، و متى كان صاحبه ممسكاً له غير
موجهه وجوهه ، حريصاً على جمعه ، عاد كثرة كالعدم ، و كان منقصة في صاحبه ،
و لم يقف به على جدد السلامة ، بل أوقعه في هوة رذيلة البخل ، و مذمة
النذالة ، فإذا التمدح بالمال و فضيلته عند مفضله ليست لنفسه ، و إنما هو
للتوصل به إلى غيره ، و تصريفه في متصرفاته ، فجامعه إذا لم يضعه مواضعه ، و
لا وجهه وجوهه غير مليء بالحقيقة و لا غنى بالمعنى ، و لا ممتدح عند أحد
من العقلاء ، بل هو فقير أبداً غير واصل إلى غرض من أغراضه ، إذ ما بيده من
المال الموصل لها لم يسلط عليه ، فأشبه خازن مال غيره ، و لا مال له ،
فكان ليس في يده منه شيء .
و المنفق مليء و غني بتحصيله فوائد المال ، و إن لم يبق في يده من المال شيء .
فانظر سيرة نبينا صلى الله عليه و سلم و خلقه في المال تجده قد أوتي خزائن
الأرض ، و مفاتيح البلاد ، و أحلت له الغنائم ، و لم تحل لنبي قبله ، و فتح
عليه في حياته صلى الله عليه و سلم بلاد الحجاز و اليمن ، و جميع جزيرة
العرب ، و ما دانى ذلك من الشام و العراق ، و جلبت إليه من أخماسها و
جزيتها و صدقاتها ما لا يجني للملوك إلا بعضه ، و هادته جماعة من ملوك
الأقاليم فيما استأثر بشيء منه ، و لا مسك منه درهما ، بل صرفه مصارفه ، و
أغنى به غيره ،

descriptionكتاب الشفاء .. كامل Emptyرد: كتاب الشفاء .. كامل

more_horiz
و قوى به المسلمين ، و قال : ما يسرني أن لي أحداً ذهباً يبيت عندي منه دينار ، إلا ديناراً أرصده لدين .
و أتته دنانير مرة فقسمها ، و بقيت منه ستة ، فدفعها لبعض نسائه ، فلم يـأخذه نوم حتى قام و قسمها ، و قال : الآن استرحت .
و مات و درعه مرهونة في نفقة عياله .
و اقتصر من نفقته و ملبسه و مسكنه على ما تدعو ضرورته إليه .
و زهد فيما سواه ، فك ان يلبس ما وجده ، فيلبس في الغالب الشملة ، و الكساة
الخشن ، و البرد الغليظ ، و يقسم على من حضره أقيبة الديباج المخوصة
بالذهب ، و يرفع لمن لم يحضره ، إذ المباهاة في الملابس و التزين بها ليست
من خصال الشرف و الجلالة ، و هي من سمات النساء .
و المحمود منها نقاوة الثوب ، و التوسط في جنسه ، و كونه لبس مثله ، غير مسقط لمروءة جنسه مما لا يؤدي إلى الشهرة في الطرفين .
و قد ذم الشرع ذلك ، و غاية الفخر فيه في العادة عند الناس إنما يعود إلى الفخر بكثرة الموجود ، و وفور الحال .
و كذلك التباهي بجودة المسكن ، و سعة المنزل ، و تكثير آلاته و خدمه و مركوباته .
و من ملك الأرض ، و جبي إليه ما فيها ، فترك ذلك ذهداً و تنزهاً ، فهو حائز
لفضيلة المال ، و مالك للفخر بهذه الخصلة إن كانت فضيلة زائد عليها في
الفخر ، و معرق في المدح بإضرابه عنها ، و زهدة في فانيها ، و بذلها في
مظانها .

فصل
في الخصال المكتسية من الأخلاق الحميدة
و أما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة [ 31 ] و الآداب الشريفة التي
اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها ، و تعظيم المتصف بالخلق الواحد منها ،
فضلاً عما فوقه و أثنى على الشرع على جميعها ، و أمر بها ، و وعد السعادة
الدائمة للمتخلق بها ، و وصف بعضها بأنه من أجزاء النبوة ، و هي المسماة
بحسن الخلق ، و هو الإعتدال في قوى النفس و أوصافها ، و التوسط فيها دون
الميل إلى منحرف أطرافها ، فجميعها ، قد كانت خلق نبينا محمد صلى الله عليه
و سلم على الإنتهاء في كمالها ، و الإعتدال إلى غايتها ، حتى أثنى الله
بذلك عليه ، فقال تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ سورة القلم / 68 ، الآية : 4
] .
قالت عائشة ـ رضي الله عنها : كان خلقه القرآن ، يرضى برضاه ، و يسخط بسخطه .
و قال صلى الله عليه و سلم : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
قال انس : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن الناس خلقاً .
و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثله .
و كان فيما ذكره المحقوق محبولاً عليها في أصل خلقته و أول فطرته ، لم تحصل
له باكتساب و لا رياضة إلا بجود إلهي ، و خصوصية رب انية .
و هكذا لسائر الأنبياء ، و من طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك ،
كما عرف من حال عيسى و موسى ، و يحيى ، و سليمان ، و غيرهم عليهم السلام .
بل غرزت فيهم هذه الأخلاق في الجبلة ، و أودعوا العلم و الحكمة في الفطرة ،
قال الله تعالى : وآتيناه الحكم صبيا [ سورة مريم / 19 ، الآية : 12 ] .
قال المفسرون : أعطي يحيى العلم بكتاب الله تعالى في حال صباه .
و قال معمر : كان يحيى ابن سنتين أو ثلاث ، فقال له الصبيان : لم لا تلعب ؟
فقال : أللعب خلقت ! .
و قيل في قوله تعالى : مصدقا بكلمة من الله : صدق يحيى بعيسى ، و هو ابن ثلاث سنين ، فشهد له أنه كلمة الله و روحه .
و قيل : صدقه و هو في بطن أمه ، فكانت أم يحيى تقول لمريم : إنى أجد ما في
بطني يسجد لما في بطنك ، تحتة له . و قد نص الله تعالى على كلام عيسى لأمه
عند ولادتها إياه بقوله لها : أن لا تحزني على قراءة من قرأ من تحتها و على
قول من قال : إن المنادي عيسى .
و نص على كلامه في مهده ' فقال : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا .
و قال : ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية : 79 ] .
و قد ذكر من حكم سليمان و هو صبي يلعب في قصة المجرومة ، و في قصة الصبي ما اقتدى به داود أبوه .
و حكى الطبري أن عمره كان حين أوتي الملك اثني عشر عاماً .
و كذلك قصة موسى مع فرعون و أخذه بلحيته و هو طفل .
و و قال المفسرون ـ في قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ، أي هديناه صغيرا ، قاله مجاهد و غيره .
و قال ابن عطاء : اصطفاه قبل إبداء خلقه .
و قال بعضهم : لما ولد إبراهيم عليه السلام بعث الله تعالى إليه ملكاً
يأمره عن الله أن يعرفه بقلبه ، و يذكره بلسانه ، فقال : قد فعلت ، و لم
يقل أفعل ، فذلك رشده .
و قيل : إن إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار و محنته كانت و هو ابن ست
عشرة سنة ، و إن ابتلاء إسحاق بالذبح كان و هو ابن سبع سنين ، و إن استدلال
إبراهيم بالكوكب و القمر و الشمس كان و هو ابن خمسة عشر شهراً .
و قيل : أوحي إلى يوسف و هو صبي عندما هم إخوته بإلقائه في الجب ، يقول
الله تعالى : وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون [ سورة يوسف /
12 ، الآية : 15 ] .
[ 32 ] إلى غير ذلك مما ذكرنا من أخبارهم .
و قد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمداً صلى الله عليه و
سلم ولد حين ولد باسطاً يديه إلى الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء .
و قال في حديثه صلى الله عليه و سلم : لما نشأت بغضت إلي الأوثان . و بغض إلى الشعر .
و لم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين ، فعصمني الله منهما ، ثم لم أعد .
ثم يتمكن الأمر لهم ، و تترادف نفحات الله عليهم ، و تشرق أنوار المعارف في
قلوبهم ، حتى يصلوا الغاية ، و يبلغوا ـ باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة
في تحصيل هذه الخصال الشريفة ـ النهاية دون ممارسة و لا رياضة ، قال الله
تعالى : ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما [ سورة يوسف / 12 ، الآية 22 ] .
و قد نجد غيرهم يطبع على بعض هذه الأخلاق دون جميعها ، و يولد عليها ،
فيسهل عليه اكتساب تمامها عناية من الله تعالى ، كما نشاهد من خلقه بعض
الصبيان على حسن السمت ، أو الشهامة ، أو صدق اللسان ، أو السماحة ، و كما
نجد بعضهم على ضدها ، فبالإكتساب يكمل ناقصها ، و بالرياضة و المجاهدة
يستجلب معدومها ، و يعتدل منحرفها ، و باختلاف هذين الحالين يتفاوت الناس
فيها . و كل ميسر لما خلق له . و لهذا ما قد اختلف السلف فيها : هل هذا
الخلق ج بلة أو مكتسبة ؟ .
فحكى الطبري عن بعض السلف أن الخلق الحسن جبلة و غريزة في العبد ، و حكاه عن عبد الله بن مسعود ، و الحسن ، و به قال هو .
و الصواب ما أصلناه . و قد روى سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة و الكذب .
و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديثه : و الجرأة ، و الجبن غرائز
يضعها الله حيث يشاء . و هذه الأخلاق المحمودة و الخصال الجميلة كثيرة ، و
لكنا نذكر أصولها ، و نشير إلى جميعها ، و نحقق وصفه صلى الله عليه و سلم
بها إن شاء الله تعالى .
فصل
في بيان أصول هذه الأخلاق و تحقق وصف النبي بها
أما أصل فروعها ، و عنصر ينابيعها ، و نقطة دائرتها فالعقل الذي منه ينبعث
العلم و المعرفة ، و يتفرع عن هذا ثقوب الرأي ، و جودة الفطنة ، و الإصابة ،
و صدق الظن ، و النظر للعواقب و مصالح النفس ، و مجاهدة الشهوة ، و حسن
السياسة و التدبير ، و اقتناء الفضائل ، و تجنب الرذائل .
و قد أشرنا إلى مكانه عليه السلام ، و بلوغه منه و من العلم الغاية التي لم
يبلغها بشر سواه ، و إذ جلالة من ذلك ، و مما تفرع منه متحقق عند من تتبع
مجاري أحواله ، و اطراد سيره ، و طالع جوامع كلامه . و حسن شمائله ، و
بدائع سيره ، و حكم حديثه ، و علمه بما في التوراة و الإنجيل و الكتب
المنزلة ، و حكم الحكماء ، و سير الأمم الخالية ، و إياها و ضرب الأمثال ، و
سياسات الأنام ، و تقرير الشرائع ، و تأصيل الأداب النفسية ، و الشيم
الحميدة إلى فنون العلوم التي اتخذ أهلها كلامه عليه السلام فيها قدره ، و
إشاراته حجة ، كالعبارة ، و الطب ، و الحساب ، و الفرائض ، و النسب ، و غير
ذلك مما سنبينه في معجزاته إن شاء الله ، دون تعليم و لا مدارس ، و لا
مطالعة كتب من تقدم ، و لا الجلوس إلى علم ائهم ، بل بني أمي لم يعرف بشيء [
23 ] من ذلك ، حتى شرح الله صدره ، و أبان أمره ، و علمه ، و أقرأه ، يعلم
ذلك بالمطالعة و البحث عن حاله ضرورة ، و بالبرهان القاطع على نبوته نظراً
، فلا نطول بسرد الأقاصيص ، و آحاد القضايا ، إذ مجموعها مالاً يأخذه حصر ،
ولا يحيط به حفظ جمع ، و بحسب عقله كانت معارفه صلى الله عليه و سلم إلى
سائر ماعلمه الله تعالى ، و أطلعه عليه من علم ما يكون و ما كان ، و عجائب
قدره ، وعظيم ملكوته ، قال تعالى وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك
عظيما [ سورة النساء / 4 ، الآية : 113 ]
حارث العقول في تقدير فضله عليه ، و خرست الألسن دون و صف يحيط بذلك أو ينهى إليه .
الفصل
في الفرق بين الحلم و الإحتمال ، و العفو مع القدرة ، و الصبر على ما يكره
و أما الحلم و الاحتمال ، و العفو مع القدرة ، و الصبر على ما يكره ، و بين
هذه الألقاب فرق ، فإن الحلم حالة توقر و ثبات عند الأسباب المحركات . و
الاحتمال : حبس النفس عند الآلام و المؤذيات . و مثلها الصبر ، و معانيها
متقاربة .
و أما العفو فهو ترك المؤاخذة .
و هذا كله مما أدب الله تعالىبه نبيه صلى الله عليه و سلم ، فقال : خذ
العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 99 1 ] .

روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل عليه السلام عن تأويلها ، فقال له : أسأل العالم .
ثم ذهب فأتاه ، فقال : يامحمد . إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ، و تعطي من حرمك ، و تعفو عمن ظلمك .
قال له : واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور .
و قال تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ سورة الأحقاف / 6 4 ، الآية : 35 ]
قال : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم .
و قال : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 3 4 ] .
و لا خفاء بما يؤثر من حلمه و احتماله ، و أن كل حليم قد عرفت منه زله ، و
حفظت عنه هفوه ، وهو صلى الله عليه و سلم لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبراً ،
و على اسراف الجاهل إلا حلماً .
حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن علي التغلبي و غيره ، قالو ا : حدثنا
محمد بن عتاب ، حدثنا أبو بكر بن و افد القاضي و غيره ، حدثنا أبو عيس ،
حدثنا عبيد الله ، قال حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن
عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما خير رسول الله صلى الله عليه و
سلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهم ما لم يكن اثماً ، فإن كان إثماً كان
أبعد الناس منه ، و ما انتقم رسول الله صلى الله عليه و سلم لنفسه إلا أن
تنتهك حرمه الله تعالى، فينتقم الله بها .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم كسرت رباعيته و شج و جهه يوم أحد شق
ذلك على أصحابه شديداً ، و قالو : لو دعوت عليهم ! فقال : إني لم أبعث
لعاناً ، و لكني بعثت داعياً و رحمة . اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون .
و روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في بعض كلامه : بأبي أنت و أمي يا رسول
الله ! لقد دعا نوح على قومه ، فقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا . و لو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا ، فلقد وطيء ظهرك ، و
أدمي وجهك ، و كسرت رباعيتك ، فأبيت أن تقول إلا خيراً ، فقلت : اللهم اغفر
لقومي ، فإنهم لا يعلمون .
قال القاضي ابو الفضل وفقه الله : انظر في هذا القول من جماع الفضل ، و
درجات الإحسان ، و حسن الخلق ، و كرم النفس ، و غاية الصبر [ 34 ] و الحلم ،
إذ لم يقتصر صلى الله عليه و سلم على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ، ثم أشفق
عليهم و رحمهم ، و دعا و شفع لهم ، فقال : اغفر أو اهد ، ثم أظهر سبب
الشفقة و الرحمة بقوله : لقومي ، ثم اعتذر عنهم بجهلهم ، فقال : فإنهم لا
يعلمون .
و لما قال له الرجل : اعدن ، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ـ لم يزده في جوابه أن يبين له ما جهله .
و وعظ نفسه ، و ذكرها بما قال له ، فقال : و يحك ! فمن يعدل إن لم أعدل ! خبت و خسرت إن لم أعدل ! و نهى من أراد من أصحابه قتله .
و لما تصدى له غورث بن الحارث ليفتك به ، و رسول الله صلى الله عليه و سلم
منتبذ تحت شجرة وحده قائلاً ، و الناس قائلون ، في غزاة ، فلم ينتبه رسول
الله صلى الله عليه و سلم إلا و ه و قائم و السيف صلتاً في يده ، فقال : من
يمنعك مني ؟ فقال الله فسقط السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه و
سلم ، و قال : من يمنعك مني ؟ قال : كن خير آخذ ، فتركه و عفا عنه . فجاء
إلى قومه فقال : جئتكم من عند خير الناس .
و من عظيم خبره في العفو عفوه عن اليهودية التي سمته في الشاة بعد اعترافها ـ على الصحيح من الرواية .
و أنه لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره ، و قد أعلم به و أوحي إليه بشرح أمره ، و لا عتب عليه فضلاً عن معاقبته .
و كذلك لم يؤخذ عبد الله بن أبي و أشباهه من المنافقين بعظيم ما نقل عنهم
في جهته قولاً و فعلاً ، بل قال لمن أشار بقتل بعضهم : لا يتحدث أن محمداً
يقتل أصحابه .
و عن أنس رضي الله عنه : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم ، و عليه برد
غليظ الحاشية ، فجبذه الأعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في
صفحة عاتقه ، ثم قال : يا محمد ، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي
عندك ، فإنك لا تحمل لي من مالك و مال أبيك .
فسكت النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم قال : المال مال الله ، و أنا عبده .
ثم قال : و يقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي .
قال : لا .
قال : لم ؟ قال : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة .
فضحك النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم أمر أن يحمل له على بعيره شعير ، و على الآخر تمر .
قالت عائشة رضي الله عنهما : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم
منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله . و ما ضرب بيده
شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله . و ما ضرب خادماً قط و لا إمرأة .
و جيء إليه برجل ، فقيل : هذا أراد أن يقتلك . فقال له النبي صلى الله عليه
و سلم : لن تراع ، لن تراع ، و لو أردت ذلك لم تسلط علي .
و جاءه زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقضاه ديناً عليه ، فجبذ ثوبه عن منكبه ، و
أخذ بمجامع ثيابه ، و أغلظ له ، ثم قال : إنكم ، يا نبي عبد المطلب ، مطل ،
فانتهره عمر و شدد له في القول ، و النبي صلى الله عليه و سلم يبتسم .
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا و هو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر ، تأمرني بحسن القضاء ، و تأمره بحسن التقاضي .
ثم قال : لقد بقي من أجله ثلاث ، و أمر عمر يقضيه ماله و يزيده عشرين صاعاً لما روعه ، فكان سبب إسلامه .
ذلك انه كان يقول : ما بقي من علامات النبوة شيء إلا و قد عرفتها في محمد
إلا اثنتين لم أخبرهما : يسبق حلمه جهله [ 35 ] ، و لا تزيده شدة الجهل إلا
حلماً . فأختبره بهذا ، فوجده كما وصف .
و الحديث عن حلمه عليه السلام و صبره و عفوه عند القدرة أكثر من أن تأتي
عليه ، و حسبك ما ذكرناه مما في الصحيح و المصنفات الثابتة إلى ما بلغ
متواتراً مبلغ اليقين : من صبره على مقاساة قريش ، و أذى الجاهلية ، و
مصابرته الشدائد الصعبة معهم إلى أن أظفره الله عليهم ، وحكمه فيهم ، و هم
لا يشكون في استئصال شأفتهم ، و إبادة خضرائهم ، فما زاد على أن عفا و صفح ،
و قال : ما تقولون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، و ابن أخ
كريم ، فقال : أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم
وهو أرحم الراحمين ، اذهبوا فأنتم الطلقاء . و قال أنس : هبط ثمانون رجلاً
من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأخذوا ،
فأعقتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأنزل الله تعالى : وهو الذي كف
أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما
تعملون بصيرا . و قال لأبي سفيان ـ و قد سيق إليه بعد أن جلب إليه الأحزاب ،
و قتل عمه و أصحابه و مثل بهم ، فعفا عنه ، و لاطفه في القول : ويحك يا
أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال : بأبي أنت و
أمي ! ما أحلمك و أوصلك و أكرمك ؟ .
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أبعد الناس غضباً ، و أسرعهم رضاً ، صلى الله عليه و سلم .
فصل
في معاني الجود و الكرم ، و السخاء و السماحة
و أما الجود و الكرم ، و السخاء و السماحة ـ فمعانيها متقاربة . و قد فرق
بعضهم بينها بفروق ، فجعلوا الكرم الإنفاق بطيب النفس فيما يعظم خطره و
نفعه ، و سموه أيضا حرية ، و هو ضد النذالة .
و السماحة : التجافي عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفس ، و هو ضد الشكاسة .
و السخاء : سهولة الإنفاق ، و تجنب اكتساب ما لا يحمد ، و هو الجود ، و هو
ضد التقتير . و كان صلى الله عليه و سلم لا يوازى في هذه الأخلاق الكريمة ،
و لا يبارى ، بهذا وصفه كل من عرفه .
حدثنا القاضي الشهيد أبو على الصدفي رحمه الله ، حدثنا القاضي أبو الوليد
الباجي ، حدثنا أبو ذر الهروي ، حدثنا أبو الهيثم الكشميهني،وأبو محمد
السرخسي ، و أبو إسحاق البلخي ، قالوا : حدثنا أبو عبد الله الفربري ، قال :
حدثنا البخاري ، قال حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سفيان ، عن ابن المنكدر ،
سمعت جابر بن عبد الله يقول : ما سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء
فقال : لا .
و عن أنس ، و سهل بن سعد مثله .
و قال ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه و سلم أجود الناس بالخير ، و
أجود ما كان في شهر رمضان ، و كان إذا لقيه جبريل عليه السلام أجود بالخير
من الريح المرسلة .
و عن أنس أن رجلاً سأله فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى بلده ، و قال :
أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى فاقة . و أعطى غير واحد مائة من
الإبل ، و أعطى صفوان مائة ثم مائة ثم مائة ، و هذه كانت حاله صلى الله
عليه و سلم قبل أن يبعث .
و قد قال له ورقة بن نوفل : إنك تحمل الكل و تكسب العدوم .
و رد على هوازن سباياها ، و كانوا ستة آلاف .
و أعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله .
و حمل إليه تسعون ألف درهم ، فوضعت على حصير ، ثم قام إليها يقسمها ، فما رد سائلاً حتى فرغ منها .
و جاءه رجل ، فسأله فقال : ما عندي شيء ولكن ابتع علي ، فإذا [ 36 ] جاءنا شيء قضيناه .. .
فقال له عمر : ما كلفك الله ما لا تقدر عليه .
فكره النبي صلى الله عليه و سلم ذلك . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، أنفق و لا تخف من ذي العرش إقلالاً .
فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم ، و عرف البشر في وجهه ، و قال : بهذا أمرت ذكره الترمذي .
و ذكر عن معوذ ابن عفراء ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم بقناع من
رطب ـ يريد طبقاً ، و أجر زغب ـ يريد قثاء ، فأعطاني ملء كفه حلياً و ذهباً
.
و قال أنس : كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يدخر شيئاً لغد .
و الخير بجوده صلى الله عليه و سلم و كرمه الكثير .
و عن أبي هريرة : أتى رجل النبي صلى الله عليه و سلم يسأله ، فاستسلف له
رسول الله صلى الله عليه و سلم نصف وسق ، فجاء الرجل يتقاضاه ، فأعطاه
وسقاً ، و قال : نصفه قضاء و نصفه نائل .
فصل
في الشجاعة و النجدة
و أما الشجاعة و النجدة فالشجاعة فضيلة قوة الغضب و انقيادها للعقل ، و
النجدة : ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يحمد فعلها دون خوف .
و كان صلى الله عليه و سلم منهما بالمكان الذي لا يجهل ، قد حضر المواقف
الصعبة ، و فر الكماة و الأبطال عنه غير مرة ، و هو ثابت لا يبرح ، و مقبل
لا يدبر و لا يتزحزح و ما شجاع إلا و قد أحصيت له فرة ، و حفظت عنه جولة ،
سواه .
حدثنا أبو علي الجياني فيما كتب لي ، قال : حدثنا القاضي سراج ، حدثنا أبو
محمد الأصيلي ، قال : حدثنا أبو زيد الفقيه ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا
محمد بن اسماعيل ، حدثنا ابن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن أبي
اسحاق : سمع البراء و سأله رجل : أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلى الله
عليه و سلم ؟ قال : لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفر .
ثم قال : لقد رأيته على بغلته البيضاء و أبو سفيان آخذ بلجامها ، و النبي
صلى الله عليه و سلم يقول : أنا النبي لا كذب ، و زاده غيره : أنا ابن عبد
المطلب .
قيل : فما رئي يومئذ أحد كان أشد منه .
و قال غيره : نزل النبي صلى الله عليه و سلم عن بغلته .
و ذكر مسلم ـ عن العباس ، قال : فلما التقى المسلمون و الكفار ولى المسلمون
مدبرين ، فطفق رسول الله صلى الله عليه و سلم يركض بغلته نحو الكفار ، و
أنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع ، و أبو سفيان آخذ بركابه ، ثم نادى :
يا للمسلمين ... الحديث .
و قيل : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا غضب ـ و لا يغضب الله لم
يقم لغضبه شيء . و قال : ابن عمر : ما رأيت أشجع ، ولا أنجد ، ولا أجود ، و
لا أرضى ، و لا أفضل من رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قال علي رضي الله عنه : إنا كنا إذا حمي اليأس ـ و يروى : اشتد البأس ـ و
احمرت الحدق اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه و لقد
رأيتني يوم بدر و نحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه و سلم ، و هو أقربنا إلى
العدو و كان من أشد الناس يومئذ بأساً .
و قيل : كان الشجاع هو الذي يقترب منه صلى الله عليه و سلم إذا دنا العدو ،
لقربه منه . عن أنس : كان النبي صلى الله عليه و سلم أحسن الناس ، و أجود
الناس ، و أشجع الناس ، لقد فزع أهل المدينة ليلة ، فانطلق ناس قبل الصوت ،
فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم راجعاً ، قد سبقهم إلى الصوت ، و
استبرق الخبر على فرس لأبي طلحة عرى ، و السيف [ 37 ] في عنقه ، و هو يقول :
لن تراعوا .
و قال عمران بن حصين : ما لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم كتيبة إلا كان أول من يضرب .
و لما رآه أبي بن خلف يوم أحد و هو يقول : أين محمد ، لا نجوت إن نجا .
و قد كان يقول للنبي صلى الله عليه و سلم ـ حين افتدى يوم بدر : عندي فرس أعلفها كل يوم فرفاً من ذرة أقتلك عليها .
فقال : له النبي صلى الله عليه و سلم أنا أقتلك إن شاء الله .
فلما رآه يوم أحد شد أبي على فرسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ،
فاعترضه رجال من المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هكذا ، أي
خلوا طريقه و تناول الحربة من الحارس بن الصمة ، فانتفض بها انتفاضة
تطايروا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله النبي صلى
الله عليه و سلم ، فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً .
و قيل : بل كسر ضلعاً من أضلاعه ، فرجع إلى قريش يقول : قتلني محمد ، و هم
يقولون لا بأس بك . فقال : لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم ، أليس قد قال :
أنا أقتلك ، و الله لو بصق علي لقتلني . فمات بسرف في قف ولهم إلى مكة .
فصل
في حسن عشرته و أدبه و بسط خلقه
و أما حسن عشرته و أدبه و بسط خلقه صلى الله عليه و سلم مع أصناف الخلق فبحيث انتشرت به الأخبار الصحيحة .
قال علي رضي الله عنه [38] في و صفه عليه الصلاة و السلام : : كان أوسع
الناس صدراً ، و أصدق الناس لهجة ، و ألينهم عريكة ، و أكرمهم عشرة .
حدثنا أبو الحسن علي بن مشرق الأنماطي فيما أجازنيه ، و قرأتة على غيره ،
قال : حدثنا أبو إسحاق الحبال ، حدثنا أبو محمد بن النحاس ، حدثنا ابن
الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا هشام أبو مروان ، و محمد بن المثني :
قالا : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، سمعت يحيى بن أبي كثير
يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن قيس بن سعد ، قال
زارنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ و ذكر قصة في آخرها : فلما أراد
الإنصراف قرب له سعد حماراً ، و طأ عليه بقطيفة ، فركب رسول الله صلى الله
عليه و سلم ، ثم قال سعد : يا قيس ، اصحب رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال قيس : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اركب ، فأبيت . فقال : إما أن تركب و إما أن تنصرف . فانصرفت .
[ و في رواية أخرى : اركب أمامي ، ف صاحب الدابة أولى بمقدمها ] .
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤلفهم ، و لا ينفرهم ، و يكرم كريم
كل قوم و يوليه عليهم ، و يحذر الناس ، و يحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد
منهم بشره و لا خلقه ، يتفقدأصحابه ، و يعطي كل جلسائه نصيبه ، لا يحسب
جليسه أن أحداً أكرم عليه منه . من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو
المنصرف عنه ، و من سأله حاجة لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول ، قد
وسع الناس بسطه و خلقه ، فصار لهم أباً ، و صاروا عنده في الحق سواء .
بهذا وصفه ابن أبي هالة ، قال : و كان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب
، ليس بفظ و لا غليظ ، و لا سخاب ، و لا فحاش و لا عياب ، و لا مداح ،
يتغافل عما لا يشتهي و لا يؤنس منه .
و قال الله تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 159 ] .
و قال تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون .
و كان يجيب من دعاه ، و يقبل الهدية و لو كانت كراعاً و يكافيء عليها .
قال أنس : خدمت رسول الله عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، و ما قال لشيء صنعته : لم صنعته ؟ و لا ل شيء تركته : لم تركته ؟ .
و عن عائشة رضي الله عنها : ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله
عليه و سلم ، ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلا قال : لبيك .
و قال جرير بن عبد الله : ما حجبني رسول الله صلى الله عليه و سلم منذ أسلمت ، و لا رآني إلا تبسم .
و كان يمازح أصحابه ، و يخالطهم و يحادثهم ، و يداعب صبيانهم ، و يجلسهم في
حجره ، و يجيب دعوة الحر و العبد ، و الأمة و المسكين ، و يعود المرضى في
أقضى المدينة ، و يقبل عذر المعتذر .
قال أنس : ما التقم أحد أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم فينحي رأسه حتى
يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه ، و ما أخذ أحد بيده فيرسل يد حتى يرسلها
الآخر ، و لم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له .
و كان يبدأ من لقيه بالسلام ، و يبدأ أصحابه ، بالمصافحة ، و لم ير قط
ماداً رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد . يكرم من يدخل عليه ، و
ربما بسط له ثوبه ، و يؤثره بالوسادة التي تحته ، و يعزم عليه في الجلوس
عليها إن أبى ، و يكني أصحابه ، و يدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم ، و لا
يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز فيقطعه بنهي أو قيام ـ و يروي : بانتهاء أو
قيام .
و يروى أنه كان [ 39 ] لا يجلس إليه أحد و هو يصلي إلا خفف صلاته ، و سأله عن حاجته ، فإذا فرغ عاد إلى صلاته .
و كان أكثر الناس تبسماً ، و أطيبهم نفساً ، ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب .
قال عبد الله بن الحارث : ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله
عليه و سلم . و عن أنس : خدم المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه و سلم
إذا صلى الغداة بآنيتهم فيها الماء ، فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها ، و
ربما كان ذلك في الغداة الباردة ـ يريدون به التبرك .
فصل
في شفقته و رأفته و رحمته لجميع الخلق
و أما الشفقة و الرأفة و الرحمة لجميع الخلق فقد قال الله تعالى فيه : عزيز
عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [ سورة التوبة / 9 ، الآية :
128 ] .
و قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية : 107 ] .
قال بعضهم : من فضله عليه السلام أن الله تعالى أعطاه اسمين من أسمائه ، فقال : بالمؤمنين رؤوف رحيم .
و حكى نحوه الإمام أبو بكر بن فورك . حدثنا الفقيه أبو محمد عبد الله بن
محمد الخشبي بقراءتي عليه ، حدثنا إمام الحرمين أبو علي الطبري ، حدثنا عبد
الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن سفيان ،
حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو الطاهر ، أنبأنا يونس ، عن ابن شهاب ،
قال : غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة ، و ذكر حنيناً ، قال :
فأعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم صفوان بن أمية مائة من النعم ، ثم
مائة ، ثم مائة .
قال ابن شهاب ، حدثنا سعيد بن المسيب أن صفوان قال : و الله لقد أعطاني ما
أعطاني و إنه لأبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي .
و روي أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً ، فأعطاه ، ثم قال : أحسنت إليك ؟ . قال الأعرابي : لا ، و لا أجملت .
فغضب المسلمون و قاموا إليه ، فأشار إليهم أن كفوا ، ثم قام و دخل منزله ، و
أرسل إليه ، و زاده شيئاً ، ثم قال : [ أحسنت إليك ؟ ] قال : نعم ، فجزاك
الله من أهل و عشيرة خيراً .
فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إنك قلت ما قلت و في أنفس أصحابي من
ذلك شيء ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم
عليك .
قال : نعم . فلما كان الغد أو العشي جاء ، فقال صلى الله عليه و سلم : إن
هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه أنه رضي ، أكذلك ؟ قال : نعم ، فجزاك
الله من أهل و عشيرة خيراً .
فقال صلى الله عليه و سلم : مثلي و مثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه ،
فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فناداهم صاحبها : خلوا بيني و بين
ناقتي ، فإني أرفق بها منكم و أعلم ، فتوجه لها بين يديها ، فأخذ لها من
قمام الأرض ، فردها حتى جاءت و استناخت ، و شد عليها رحلها ، و استوى ، و
إني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار .
و روي عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً ، فإني أحب أن أخرج إليكم و أنا سليم الصدر .
و من شفقته على أمته عليه السلام تخفيفه و تسهيله عليهم ، و كراهته أشياء
مخافة أن تفرض عليهم ، كقوله : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل
وضوء .
و خير صلاة الليل .
و نهيهم عن الوصال .
و كراهته دخول الكعبة لئلا يعنت أمته .
و رغبته لربه أن يجعل سبه و لعنه لهم رحمة بهم
و أنه كان يسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته .
و من شفقته صلى الله عليه و سلم [ 40 ] أن دعا ربه و عاهده ، فقال : أيما
رجل سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة و رحمة ، و صلاة و طهوراً ، و قربة
تقربه بها إليك يوم القيامة .
و لما كذبه قومه أتاه جبريل عليه السلام ، فقال له : إن الله تعالى قد سمع
قول قومك لك ، و ما ردوا عليك ، و قد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ،
فناداه ملك الجبال و سلم عليه ، و قال : مرني بما شئت ، و إن شئت أن أطبق
عليهم الأخشبين .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده و لا يشرك به شيئاً .
و روى أبن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال الن بي صلى الله عليه و سلم :
إن الله تعالى أمر السماء و الأرض و الجبال أن تطيعك . فقال : أؤخر عن أمتي
لعل الله أن يتوب عليهم .
قالت عائشة : ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما .
و قال ابن مسعود رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا .
و عن عائشة أنها ركبت بعيراً و فيه صعوبة ، فجعلت تردده ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عليك بالرفق .


فصل
خلقه في الوفاء و حسن العهد ، و صلة الرحم
و أما خلقه صلى الله عليه و سلم في الوفاء و حسن العهد ، و صلة الرحم ـ
فحدثنا القاضي أبو عامر محمد بن اسماعيل بقراءتي عليه ، قال حدثنا أبو بكر
محمد بن محمد ، حدثنا أبو اسحاق الحبال ، حدثنا أبو محمد بن النحاس ، حدثنا
ابن الأعرابي ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن يحيى ، قال :
حدثنا محمد بن سنان ؟ ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن بديل ، عن عبد
الكريم بن عبد الله بن شفيق ، عن ابنه ، عن عبد الله بن أبي الحمساء ، قال :
بايعت النبي صلى الله عليه و سلم ببيع قبل أن يبعث ، و بقيت له بقية ،
فوعدته أن آتيه بها في مكانه ، فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاث ، فجئت فإذا هو في
مكانه ، فقال : [ يا فتى ، لقد شققت علي ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك ] .

و عن أنس : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أتي بهدية قال : اذهبوا بها
إلى بيت فلانة ، فإنها كانت صديقة لخديجة ، إنها كانت تحب خديجة .
و عن عائشة قالت : ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة ، لما كنت أسمعه يذكرها ، و إن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها .
و استأذنت عليه أختها فارتاح إليها .
و دخلت عليه امرأة ، فهش لها ، و أحسن السؤال عنها ، فلما خرجت قال : إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، و إن حسن العهد من الإيمان .
و وصفه بعضهم ، فقال : كان يصل ذوي رحمه من غير أن يؤ ثرهم على من هو أفضل منهم .
و قال صلى الله عليه و سلم : إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء غير أن لهم رحماً سأبلها ببلالها .
و قد صلى عليه السلام بأمانة ابنة ابنته يحملها على عاتقه ، فإذا سجد وضعها ، و إذا قام حملها .
و عن أبي قتادة : وفد وفد للنجاشي ، فقام النبي يخدمهم ، فقال له أصحابه :
نكفيك . فقال : إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين ، و إني أحب أن أكافئهم .
و لما جيء بأخته من الرضاعة الشيماء في سبايا هوزان ، و تعرفت له بسط لها
رداءه ، و قال لها : إن أحببت أقمت عندي مكرمة محبة ، أو متعتك و رجعت إلى
قومك فاختارت قومها فمتعها .
و قال أبو الطفيل [ 41 ] : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم و أنا غلام إذا
أقبلت امرأة حتى دنت منه ، فبسط لها رداءه ، فجلست عليه ، فقلت : من هذه ؟
قالوا : أمه التي أرضـعتـه .
و عن عمر بن السائب ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان جالساً يوما ً ،
فأقبل أبوه من الرضاعة ، فوضع له بعض ثوبه ، فقعد عليه ، ثم أقبلت أمه
فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ، ثم أقبل أخوه من الرضاعة ،
فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فأجلسه بين يديه .
[ و كان يبعث إلى ثويبة مولاة أبي لهب مرضعته بصلة و كسوة ، فلما ماتت سأل : من بقي من قرابتها فقيل لا أحد ] .
وفي حديث خديجة رضي الله عنها أنها قالت له صلى الله عليه و سلم : أبشر ،
فوالله لا يحزنك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، و تحمل الكل ، و تكسب
المعدوم ، و تقري الضيف ، و تعين على نوائب الحق .
فصل
في تواضعه صلى الله عليه و سلم
و أما تواضعه صلى الله عليه و سلم ، على علو منصبه و رفعة رتبه ـ فكان أشد الناس تواضعاً ، و أقلهم كبرا .
و حسبك أنه خير بين أن كان نبياً ملكاً أو نبياً عبداً ، فاختيار أن يكون
نبياً عبداً ، فقال له إسرافيل عند ذلك : فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له
أنك سيد و لد آدم يوم القيامة ، و أول من تنشق الأرض عنه ، و أول شافع .
حدثنا أبو الوليد بن العواد الفقيه ـ رحمه الله ـ بقراءي عليه في منزله
بقرطبة سنة سبع و خمسمائة ، حدثنا أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا
ابن عبد المؤمن ، حدثنا ابن داسه ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو بكر بن أبي
شيبة ، حدثنا عبد الله بن نمير ، عن مسعد ، أبي العنبس ، عن أبي العدبس ،
عن أبي مرزوق ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة ، قال : خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه و سلم متكئاً على عصا ، فقمنا له . قال لا تقومو ا كما تقوم
الأعاجم ، يعظم بعضهم بعضاً .
و قال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، و أجلس كما يجلس العبد .
و كان يركب الحمار ، و يردف خلفه ، و يعود المساكين ، و يجالس الفقراء ، و
يجيب دعوة العبد ، و يجلس بين أصحابه مختلطا ً بهم حيثما انتهى به المجلس
جلس .
و في حديث عمر عنه : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله و رسوله .
و عن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء جائته ، فقال : إن لي إليك حاجة قال :
اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك .
قال : فجلست ، فجلس النبي صلى الله عليه و سلم إليها حتى فرغت من حاجتها .
قال أنس : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يركب الحمار ، و يجيب دعوة
العبد ، و كان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف . قال :
و كان يدعى إلى خبز الشعير و الإهالة السنخة فيجيب .
قال : و حج صلى الله عليه و سلم على رحل رث ، و عليه قطيفة ماتساو ي أربعة دراهم ، فقال : اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه و لا سمعة .
هذا ، و قد فتحت عليه الأرض ، و أهدى في حجه ذلك ما أتى بدنة و لما فتحت
عليه مكة و دخلها بجيوش المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى كاد يمس قادمته
تواضعاً الله تعالى .
ومن تواضعه صلى الله عليه و سلم قوله : لا تفضلوني على يونس بن متى ، و لا
تفضلوا بين الأنبياء ، و لا تخيروني على موسى ، و نحن أحق بالشك من إبراهيم
و لو لبس ما لبس يوسف [ 42 ] في السجن لأجبت الداعي .
و قال للذي قال له : يا خير البرية : ذاك إبراهيم .
و سيأتي الكلام على هذه الأحاديث بعد هذا إن شاء الله .
و عن عائشة ، و الحسن ، و أبي سعيد و غيرهم في صفته ، و بعضهم يزيد على بعض
: و كان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه ، و يحلب شاته و يرقع ثوبه ، و
يخصف نعله ، و يخدم نفسه ، و يقم البيت ، و يعقل البعير ، و يعلف ناضحه ، و
يأكل مع الخادم ، و يعجن معها ، و يحمل بضاعته من السوق .
و عن أنس : إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم فتنطلق به حيث شاءت حتى تقضي حاجتها .
و دخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له : هون عليك فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد .
و عن أبي هريرة : دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه و سلم ، فاشترى سراويل
و قال للوزان : زن و أرجح ـ و ذكر القصة قال : فوثب إلى يد النبي صلى الله
عليه و سلم يقبلها ، فجذب يده ، و قال : هذا تفعله الأعاجم بملوكها ، و
لست بملك ، إنما أنا رجل منكم . ثم أخذ السراويل ، فذهبت لأحمله ، فقال :
صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله .


فصل
عدله ، و أمانته ، و عفته ، وصدق لهجته
و أما عدله صلى الله عليه و سلم و أمانته و عفته و صدق لهجته ـ فكان صلى
الله عليه و سلم آمن الناس ، و أعدل الناس ، و أعف الناس ، و أصدقهم لهجة
منذ كان ، اعترف له بذلك محادوه و عداه .
و كان يسمى قبل نبوته الأمين .
قال ابن اسحاق : كان يسمى الأمين بما جمع الله فيه من الأخلاق الصالحة .
و قال تعالى : مطاع ثم أمين : أكثر المفسرين على أنه محمد صلى الله عليه و سلم .
و لما اختلف قريش و تحازبت عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر حكموا أول داخل
عليهم ، فإذا النبي صلى الله عليه و سلم داخل ـ و ذلك قبل نبوته ، فقالوا :
هذا محمد الأمين قد رضينا به .
و عن الربيع بن خثيم : كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجاهلية قبل الإسلام .
و قال صلى الله عليه و سلم : و الله إني لأمين في السماء أمين في الأرض .
حدثنا أبو علي الصدفي الحافظ بقرائتي عليه ، حدثنا أبو الفضل بن خيرون ،
حدثنا أبو يعلى ابن زوج الحرة ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد بن
محبوب المروزي ، حدثنا أبو عيسى الحافظ ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن
هشام ، عن سفيان ، عن أبي اسحاق ، عن ناجية بن كعب ، عن علي ـ أن أبا جهل
قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إنا لا نكذبك ، و لكن نكذب بما جئت به ،
فأنزل الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [
سورة الأنعام / 7 ، الآية : 33 ] .
و روى غيره : لا نكذبك و لا أنت فينا بمكذب .
و قيل : إن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر ، فقال له : يا أبا الحكم
ليس هنا غيري و غيرك يسمع كلامنا ، تخبرني عن محمد ، صادق هو أو كاذب ؟
فقال أبو جهل : و الله إن محمداً لصادق و ما كذب محمد قط .
و سأل هرقل عن أبا سفيان ، فقال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
قال : لا .
و قال النضر بن الحارس لقريش : قد كان محمد فيكم غلاماً حدثا ،أرضاكم فيكم ،
و أصدقكم حديثأً ، و أعظمكم أمانة حتى [ 43 ] إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، و
جاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر . لا ، و الله ، ما هو بساحر .
و في الحديث عنه : ما لمست يده امرأة قط لا يملك رقها .
و في حديث علي ـ في وصفه صلى الله عليه و سلم : أصدق الناس لهجة .
و قال في الصحيح :و يحكى ! فمن يعدل إن لم أعدل ، خبت و خسرت إن لم أعدل .
قالت عائشة : ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمرين إلا اختار
أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه .
قال أبو العباس المبرد : قسم كسرى أيامه ، فقال : يصلح يوم الريح للنوم ، و
يوم الغيمه للصيد ، و يوم المطر للشرب و اللهو ، و يوم الشمس للحوائج .
قال ابن خالوية : ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم ، يعلمون ظاهراً من الحياة
الدنيا و هم عن الآخرة غافلون ، و لكن نبينا صلى الله عليه و سلم جزء نهاره
ثلاث أجزاء ، جزءاً لله ، و
جزءاً لأهله ، و جزءاً لنفسه ثم جزء جزأه بينه و بين الناس ، فكان يستعين
بالخاصة على العامة ، و يقول : أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي ، فإنه من
أبلغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها آمنه الله يوم الفزع الأكبر .
و عن الحسن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يأخذ أحداً بقرف أحد ، و لا يصدق أحداً على أحد .
و ذكر أبو جعفر الطبري عن علي عنه صلى الله عليه و سلم : ما هممت بشيء مما
كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين ، كل ذلك يحول الله بيني و بين ما
أريد من ذلك ، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته ، قلت ليلة لغلام
كان يرعى معي : لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب .

فخرجت كذلك حتى جئت أول دار من مكة سمعت عزفاً بالدفوف و المزامير لعرس
بعضهم . فجلست أنظر ، فضرب على أذني فنمت ، فما أيقظني إلا مس الشمس ،
فرجعت و لم أقض شيئاً . ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك ، ثم لم أهم بعد ذلك
بسوء .
فصل
وقاره صلى الله عليه و سلم ، و صمته ، و تؤدته و حسن هديه
و أما وقاره صلى الله عليه و سلم و صمته و تؤدته و مروءته و حسن هديه
فحدثنا أبو علي الجياني الحافظ إجازة ، و عارضت بكتابه ، قال : حدثنا أبو
العابس الدلائي ، أنبئنا أبو ذر الهروي ، أخبرنا أبو عبد الله الوراق ،
حدثنا اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عبد الرحمن بن سلام ، حدثنا حجاج
بن محمد ، عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن عمر بن عبد العزيز بن وهيب :
سمعت خارجة بن زيد يقول : كان النبي صلى الله عليه و سلم أوقر الناس في
مجلسه ، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه .
و روى أبو سعيد الخدري : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جلس في مجلس احتبى بيديه ، و كذلك كان أكثر جلوسه لله محتبياً .
و عن جابر بن سمرة أنه تربع ، و ربما جلس القرفصاء ، و هو في حديث قيلة ، و
كان كثير السكوت لا يتكلم في غير حاجة ، يعرض عمن تكلم بغير جميل ، و كان
ضحكه تبسماً ، و كلامه فصلاً لا فضول و لا تقصير ، و كان ضحك أصحابه عنده
التبسم ، توقيراً له ، و اقتداء به . مجلسه مجلس حلم و حياء [ 44 ] ، و خير
و أمانة لا ترفع فيه الأصوات ، و لا تؤبن فيه الحرم ، إذا تكلم أطرق
جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير .
و في صفته : يخطو تكفؤاً ، و يمشي هوناً كأنما ينحط من صبب .
و في الحديث الآخر : إذا مشى مشى مجتمعاً ، يعرف في مشيته أنه غير غرض و لا وكل ، أي غير ضجر و كسلان .
و قال عبد الله بن مسعود : إن أحسن الهدى هدي محمد صلى الله عليه و سلم .
و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : كان في كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم ترتيل أو ترسيل .
قال ابن أبي هالة : كان سكوته على أربع : على الحلم ، و الحذر ، و التقدير و التفكر .
قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحدث حديثاً لو عده العاد أحصاه .
و كان صلى الله عليه و سلم يحب الطيب و الرائحة الحسنة ، و يستعملها كثيراً
، و يحض عليهما ، و يقول : حبب إلي من دنياكم النساء ، و جعلت قرة عيني في
الصلاة .
و من مروءته صلى الله عليه و سلم نهيه عن النفخ في الطعام و الشراب ، و
الأمر بالأكل مما يلي ، و الأمر بالسواك ، و إنقاء البراجم و الرواجب ، و
استعمال خصال الفطرة .

فصل
زهده في الدنيا
و أما زهده في الدنيا فقد تقدم من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي . و
حسبك من تقلله منها ، و اعراضه عن زهرتها ، و قد سيقت و قد سيقت إليه
بحذافيرها ، و ترادفت عليه فتوحها إلي أن توفي صلى الله عليه و سلم و درعه
مرهونة عند يهودي في نفقة عياله ، و هو يدعو و يقول : اللهم اجعل رزق آل
محمد قوتاً .
حدثنا سفيان بن العاصي ، و الحسين بن محمد الحافظ ، و القاضي أ أبو عبد
الله التيمي ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ،
قال حدثنا أبو أحمد الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا أبو حسين مسلم بن
الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن
إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه و
سلم ثلاثة أيام تباعاً من خبز حتى مضى لسبيله .
و في رواية أخرى : من خبز شعير يومين متواليين ، و لو شاء الله لأعطاه ما لا يخطر ببال .
و في رواية أخرى : ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه و سلم من خبز بر حتى لقي الله تعالى .
قالت عائشة : ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم ديناراً و لا درهماً و لا شاة و لا بعيراً .
و في حديث عمرو بن الحارث : ما ترك إلا سلاحه و بغلته و أرضاً جعلها صدقة .
قالت عائشة : و لقد مات و ما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي .
و قال لي : إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مكة ذهباً . فقلت : لا ، يا رب ،
أجوع يوماً و أشبع يوماً ، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك و أدعوك ،
و أما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك و أثني عليك .
و في حديث آخر أن جبريل نزل عليه ، فقال له : إن الله تعالى يقرئك السلام ،
و يقول لك : أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهباً ، و تكون معك حيثما كنت ،
فأطرق ساعة ، ثم قال : يا جبريل ، إن الدنيا دار من لا دار له ، و مال من
لا مال له ، قد يجمعها من لا عقل له .
فقال له جبريل : ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت .
و عن عائشة قالت : إن كنا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً ، إن هو إلا التمر و الماء .
و عن عبد الرحمن بن عوف : هلك رسول الله صلى الله عليه و سلم [ 45 ] ، و لم يشبع هو و أهل بيته من خبز الشعير .
و عن عائشة و أبي أمامة ، و ابن عباس نحوه .
قال ابن عباس : كان صلى الله عليه و سلم يبيت هو و أهله الليالي المتتابعة طاوياً لا يجدون عشاء .
و

descriptionكتاب الشفاء .. كامل Emptyرد: كتاب الشفاء .. كامل

more_horiz
قال : كان سكوته على أربع : الحلم ، و الحذر ، و التقدير ، و التفكير .
فأما تقديره ففي تسوية النظر و الإستماع بين الناس ، و أما تفكره ففيما
يبقى و يفنى .
و جمع له الحلم صلى الله عليه و سلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء يستفزه ،
و جمع له في الحذر أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، و تركه القبيح لينتهى
عنه ، و اجتهاد الرأي بما أصلح أمته ، و القيام لهم بما جمع أمر الدنيا و
الآخرة .
انتهى الوصف بحمد الله و عونه .
فصل
في تفسير غريب هذا الحديث و مشكله
قوله : المشذب ، أي البائن الطول في نحافة ، و هو مثل قوله في الحديث الأخر : ليس بالطويل الممغنط .
و الشعر الرجل : الذي كأنه مشط فتكسر قليلاً ، ليس ببسط و لا جعد .
و العقيقة : شعر الرأس ، أراد إن انفرقت من ذات نفسها فرقها ، و إلا تركها معقوصة . و يروى : عقيصته .
و أزهر اللون : نيره . و قيل : أزهر : حسن . و منه زهرة الحياة الدنيا ، أي زينتها .
و هذا كما قال في الحديث الآخر : ليس بالأبيض الأمهق ، و لا بالآدم .
و الأمهق : هو الناصع البياض . و الآدم : الأسمر اللون .
و مثله في الحديث الآخر : أبيض مشرب ، أي فيه حمرة .
و الحاجب الأزج : المقوس الطويل الوافر الشعر .
و الأقنى : السائل الأنف ، المرتفع وسطه .
و الأشم : الطويل قصبة الأنف .
و القرن : اتصال شعر الحاجبين . و ضده البلج .
و وقع في حديث أم معبد وصفه بالقرن .
و الأدعج : الشديد سواد الحدقة .
و في الحديث الآخر : [ 52 ] أشكل العين ، و أسجر العين ، و هو الذي في بياضها حمرة .
و الضليع : الواسع .
و الشنب : رونق الأسنان ، و ماؤها .
و قيل : رقتها و تحزيز فيها ، كما يوجد في أسنان الشباب .
و الفلج : فرق بين الثنايا .
و دقيق المسربة : خيط الشعر الذي بين الصدر و السرة .
بادن : ذو لحم متماسك ، معتدل الخلق ، يمسك بعضه بعضاً ، مثل قوله تعالى في
الحديث الأخر : لم يكن بالمطهم ، و لا بالمكلثم ، أي ليس بمسترخي اللحم .
و المكلثم : القصير الذقن .
و سواء البطن و الصدر ، أي مستويهما .
و مشيح الصدر ، إن أصبحت هذه اللفظة فتكون من الإقبال ، و هو أحد معاني [
أشاح ] ، أي أنه كان بادي الصدر ، و لم يكن في صدره قعس ، و هو تطامن فيه ،
و به يتضح قوله قبل : سواء البطن و الصدر ، أي ليس بمتقاعس الصدر ، و لا
مفاض البطن .
و لعل اللفظة : مسيح ـ بالسين ، و فتح الميم ، بمعنى عريض ، كما وقع في الرواية الأخرى . و حكاه ابن دريد .
و الكراديس : رؤوس العظام ، و هو مثل قوله في الحديث الأخر : جليل المشاش و الكتد .
و المشاش : رؤوس المناكب . و الكتد : مجتمع الكتفين .
و شثن الكفين و القدمين : لحيمهما .
و الزندان : عظما الذراعين .
و سائل الأطراف : أي طويل الأصابع .
و ذكر ابن الأنباري أنه روي سائل الأطراف ، و قال : سائن ـ بالنون ، قال : و
هما بمعنى ، تبدل اللام من النون ، إن صحت الرواية بها .
و أما في الرواية الأخرى : و سائر الأطراف ـ فإشارة إلى فخامة جوارحه ، كما وقعت مفصلة في الحديث .
و رحب الراحة ، أي واسعها . و قيل : كنى به عن سعة العطاء و الجود . و
خصمان الأخمصين : أي متجافي أخمص القدم ، و هو الموضع الذي لا تناله الأرض
من وسط القدم .
مسيح ا لقدمين : أي أمسهما ، و لهذا ، قال : ينبو عنهما الماء .
و في حديث أبي هريرة خلاف هذا ، قال فيه : إذا وطىء بقدمه وطىء بكلها ، ليس له أخمص .
و هذا يوافق معنى قوله : مسيح القدمين ، و به قالوا : سمي المسيح [عيسى ] ابن مريم أي إنه لم يكن له أخمص .
و قيل مسيح : لا لحم عليهما .
وهذا أيضاً يخالف قوله : شئن القدمين .
و التقلع : هو رفع الرجل بقوة .
و التكفؤ : الميل الى سنن المشي ، و قصده .
والهون :الرفق و الوقار .
و الذريع : الواسع الخطو ، أي إن مشية كان يرفع فيه رجليه بسرعة ، و يمد
خطوه ، خلاف مشية المختال ، و يقصد سمته ، و كل ذلك برفق و تثبت دون عجلة ،
كما قال : كأنما ينحط من صبب .
و قوله : يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه : أي لسعه فمه . و العرب تتمادح بهذا و تذم بصغر الفم .
و أشاح : مال و أنقبض .
و حب الغمام : ال برد .
و قوله : فيرد ذلك بالخاصة على العامة ، أي جعل من جزءنفسه ما يوصل الخاصة إليه فتوصل عنه للعامة .
و قيل : يجعل منه للخاصة ، ثم يبدلها في جزء آخر بالعامة .
و يدخلون رواداً ، أي محتاجين إليه و طالبين لما عنده .
و لا يتفرقون إلا عن ذواق : قيل : عن علم يتعلمونه ، و يشبه أن يكون على ظاهره أي في الغالب و الأكثر .
و العتاد : العدة ، و الشيء الحاضر المعد .
و الموازنة : المعاونة .
و قوله : لا يوطن الأماكن ، أي لا يتخذ لمصلاه موضعاً معلوماً .
و قد [53] ورد نهيه عن هذا مفسراً في غير هذا الحديث .
و صابره : أي حبس نفسه على مايريد صاحبه .
و لا تؤبن فيه الحرم : أي لا يذكرن فيه بسوء .
و لا تثني فلتاته : أي لا يتحدث بها ، أي ام تكن فيه فلتة ،و إن كانت من أحد سترت .
و يرفدون : يعينون .
و السخاب : الكثير الصياح .
و قوله : و لا يقبل الثناء إلا من مكافىء . قيل مقتصد في ثنائه و مدحه .
و قيل : إلا من مسلم .
و قيل : إلا مكافىء . على يد سبقت من النبي صلى الله عليه و سلم له .
و يستفزه : يستخفه .
و في حديث أخر في وصفه : منهوس العقب ، أي قليل لحمها .
و أهدب الأشفار :أي طويل شعرها .


الباب الثالث
فيما ورد من صحيح الأخبار و مشهورها ـ بعظيم قدره عند ربه و منزلته ، و ما خصه به في الدارين من كرامته صلى الله عليه و سلم
لا خلاف أنه أكرم البشر ، و سيد ولد آدم ، و أفضل الناس منزلة عند الله و أعلاهم درجة ، و اقربهم زلفى .
و اعلم أن الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً ، و قد اقتصرنا منها على
صحيحها و منتشرها و حصرنا معاني ما ورد منها في اثني عشر فصلاً :
الفصل الأول
فيما ورد من ذكر مكانته عند ربه ، و الاصطفاء ، و رفعه الذكر ، و التفضيل و
سيادة ولد آدم ، و ما خصه به في الدنيا من مزايا الرتب وبركة اسمه الطيب
131
أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد العدل إذناً بلقظه ، قال : حدثنا
أبو الحسن الفرغاني ، حدستنا أم القاسم بنت أبي بكر بن يعقوب ، عن أبيها ،
قال : حدثنا حاتم ـ هو ابن عقيل ، عن يحيى ـ هو ابن إسماعيل ، عن يحيى
الحماني ، قال : حدثنا قيس ، عن الأعمش ، عن عباية بن ربعي ، عن ابن عباس ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله قسم الخلق قسمين ،
فجعلني من خيرهم قسماً ، فذلك قوله : أصحاب اليمين ، و أصحاب الشمال ، فأنا
من أصحاب اليمين ، و أ نا خير أصحاب اليمين .
ثم جعل القسمين أثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً ، و ذلك قوله تعالى :
فأصحاب الميمنة . و أصحاب المشأمة ، و السابقون السابقون ، فأن من السابقون
، و أنا خير السابقين ، ثم جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني من خيرها قبيلة ، و
ذلك قوله : وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
فأنا أتقى ولد آدم و أكرمهم على الله و لا فخر .
ثم جعل القبائل بيوتاً ، فجعلني من خيرها بيتاً ، فذلك قوله تعالى : إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا [ سورة الأحزاب / 33 ،
الآية : 33 ] .
و عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قالو : يا رسول الله ، متى و جبت لك النبوة ؟
قال : و آدم بين الروح و الجسد .
و عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله
اصطفى من ولد إبراهيم و إسماعيل . واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، و
اصطفى من بني كنانة قريشاً ، و اصطفى من قريش بني هاشم ، و اصطفاني من بني
هاشم .
و من حديث أنس : أنا أكرم ولد آدم على ربي و لا فخر .
و في حديث ابن عباس : أنا أكرم الأولين و ال أخرين و لا فخر .
و عن عائشة ، عنه عليه السلام : أتاني جبريل ، فقال :قلبت مشارق الأرض و
مغاربها فلم أر رجلاً أفضل من محمد ، و لم أر بني أب أفضل من بني هاشم .
و عن أنس : أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بالبراق ليلة أسري به ،
فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : بمحمد تفعل [54 ] هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم
على الله منه ، فارفض عرقاً
و عن ابن عباس ، عنه عليه السلام : لما خلق الله آدم أهبطني في صلبه إلى
الأرض ، و جعلني في صلب نوح في السفينة ، و قذف بي في النار في صلب إبراهيم
، ثم لم يزل ينقلني في الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة حتى أخرجني
بين أبوي لم يلتقيا علىسفاح قط .
و إلى هذا أشار العباس بن المطلب رضي الله عنه بقوله :
من قبلها طبت في الظلال و في مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر أنت و لا مضغة و لا علق
بل نطفة تركب السفين و قد ألجم نسراً و أهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق
في يعض النسخ أبيات أخر ، و هي قوله :
حتى احتوى بيتك المهين من خندف علياء تحتها النطق
و أنت لما و لدت أشرقت ال أرض و ضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء و في الن ور و سبل الرشاد نخترق
يا برد نار الخليل يا سبباً لعصمة النار و هي تحترق
[ النطق : أوسط الجبال العالية ] .
و روى عنه صلى الله عليه و سلم ، أبو ذر ، و ابن عمر ، و ابن عباس ، و أبو
هريرة ، و جابر ابن عبد الله ـ أنه قال : أعطيت خمساً ـ و في بعضها ـ ستاً
لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، و جعلت لي الأرض مسجداً و
طهوراً ، و أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، و أحلت لي الغنائم ، و
لم تحل لنبي قبلي ، و بعث إلى الناس كافة ، و أعطيت الشفاعة .
و في رواية ـ بدل هذه الكلمة : و قيل لي : سل تعطه .
و في رواية أخرى : و عرض علي أمتي فلم يخف علي التابع من المتبوع .
و في رواية : بعثت إلى الأحمر و الأسود .
و قيل : السود : العرب ، لأن الغالب على ألوانهم الأدمة ، فهم من السود . و الحمر : العجم .
و قيل : البيض و السود من الأمم .
و قيل : الحمر : الأنس . و السود : الجن .
و في الحديث الآخر ـ عن أبي هريرة : نصرت بالرعب ، و أتيت جوامع الكلم ، و
بينا أنا نائ م إذا جيء بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي .
و في رواية ـ عنه : و ختم بي النبيون .
و عن عقبة بن عامر أنه قال : قال عليه السلام : إني فرط لكم ، و أنا شهيد عليكم .
و إني و الله لأنظر إلى حوضي الآن ، و إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض . و
إني ـ و الله ـ ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، و لكني أخاف عليكم أن
تنافسوا فيها .
و عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أنا محمد
النبي الأمي ، لا نبي بعدي ، أوتيت جوامع الكلم و خواتمه ، و علمت خزنة
النار و حملة العرش .
و عن ابن عمر : بعثت بين يدي الساعة .
و من رواية ابن وهب ـ أنه عليه السلام قال : قال الله تعالى : سل يا محمد .
فقلت : ما أسأل يا رب ؟ اتخذت إبراهيم خليلاً ، و كلمت موسى تكليماً ، و
اصطفيت نوحاً ، و أعطيت سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، فقال الله
تعالى : ما أعطيتك خير من ذلك ، أعطيتك الكوثر ، و جعلت اسمك مع اسمي ،
ينادى به في جوف السماء ، و جعلت الأرض طهوراً لك ، ولأمتك ، و غفرت لك ما
تقدم من ذنبك و ما تأخر ، فأنت تمشي في الناس مغفوراً لك شفاعتك ، و لم
أصنع ذلك لأحد قبلك ، و جعلت قلوب أمتك مصاحفها ، و خبأت لك شفاعتك ، و لم
أخبأها لنبي غيرك .
و في حديث آخر : رواه حذيفة : بشرني ـ يعني ربه : أول من يدخل الجنة و معي
من أمتي [ 55 ] سبعون ألفاً ، مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب ، و
أعطاني ألا تجوع أمتي و لا تغلب ، و أعطاني النصر و العزة و الرعب يسعى بين
يدي أمتي شهراً ، و طيب لي و لأمتي المغانم ، و أحل لنا كثيراً مما شدد
على من قبلنا ، و لم يجعل علينا في الدين من حرج .
و عن أبي هريرة ، عنه عليه السلام : ما من نبي من الأنبياء إلا و قد أعطي
من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، و إنما كان الذي أوتيت و حياً أوحى
الله إلي ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة .
معنى هذا عند المحققين بقاء معجزته ما بقيت الدنيا ، و سائر معجزات
الأنبياء ذهبت للحين ، و لم يشاهدها إلا الحاضر لها ، و معجزة القرآن يقف
عليها قرن بعد قرن عياناً لا خبراً إلى القيامة .
و فيه كلام يطول هذا نخبته . و قد بسطنا القول فيه ، و فيما ذكر فيه سوى هذا آخر باب المعجزات .
و عن علي رضي الله عنه : كل نبي أعطي سبعة نجباء ، و أعطي نبيكم صلى الله
عليه و سلم أربعة عشر نجيباً ، م نهم أبو بكر ، و عمر ، و ابن مسعود ، و
عمار .
و قال صلى الله عليه و سلم : إن الله قد حبس عن مكة الفيل ، و سلط عليها
رسوله و المؤمنين ، و إنها لا تحل لأحد بعدي ، و إنما أحلت لي ساعة من نهار
.
و عن العرباض بن سارية : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إني
عبد الله و خاتم النبيين ، و إن آدم لمنجدل في طينته ، و عدة أبي إبراهيم ،
و بشارة عيسى بن مريم .
و عن ابن عباس ، قال : إن الله فضل محمداً صلى الله عليه و سلم على أهل
السماء ، و على الأنبياء صلوات الله عليهم ، قالوا : فما فضله على أهل
السماء ؟ قال : إن الله تعالى قال لأهل السماء : ومن يقل منهم إني إله من
دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية :
29 ] .
و قال لمحمد صلى الله عليه و سلم : إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك
الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 1،2 ] .
قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال : إن الله تعالى قال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه [ سورة إبراهيم /14 ، الآية : 4 ] .
و قال لمحمد : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ سورة سبأ /34 ، الآية : 28 ] .
و عن خالد بن معدان أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك .
و قد روى نحوه عن أبي ذر ، و شداد بن أوس ، و أنس بن مالك ، فقال : نعم ،
أنا دعوة أبي إبراهيم ـ يعني قوله : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم . و بشرى
عيسى . و رأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء له قصور بصرى من أرض
الشام ، و استرضعت في بني سعد بن بكر ، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى
بهما لنا إذا جاءني رجلان عليهما ثياب بيض .
و في حديث آخر : ثلاثة رجال بطست من ذهب مملوءة ثلجاً ، و أخذاني فشقا بطني .
قال في غير هذا الحديث : من نحري إلى مراق بطني ، ثم استخرجا منه قلبي ،
فشقاه ، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي و بطني بذلك الثلج
حتى أنفياه .
قال في حديث آخر : ثم تناول أحدهما شيئاً فإذا بخاتم في يده من نور يحار
الناظر دونه ، فختم به قلبي ، فامتلأ إيماناً و حكمة ، ثم أعاده مكانه ، و
أمر الآخر يده على مفرق صدري فالتأم .
و في رواية : إن جبريل قال : قلب و كيع ، أي سديد ، فيه عينان تبصران ، و
أذنان سميعتان ، ثم قال أحدهما [51 ] لصاحبه : زنه بعشرة من أمته ، فوزنني
فرجحتهم ، ثم قال : زنه بمائة من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : زنه
بألف من أمته ، فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : دعه عنك ، فلو وزنته بأمته
لوزنها .
قال في الحديث الآخر : ثم ضموني إلى صدورهم ، و قبلوا رأسي ، و ما بين عيني
، ثم قالوا : يا حبيب ، لم ترع ، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت
عيناك .
و في بقية هذا الحديث من قولهم : ما أكرمك على الله ! إن الله معك و ملائكته .
قال في حديث أبي ذر : [ فما هو إلا أن و لياً عني ، فكأنما أرى الأمر معاينة ] .
و حكى أبو محمد مكي ، و أبو الليث السمر قندي و غيرهما ـ أن آدم عند معصيته قال : [ اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي ] .
و يروى : تقبل توبتي . فقال له الله : [ من أين عرفت محمداً ؟ فقال : رأيت
في كل موضع من الجنة مكتوباً : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ] .
و يروى : محمد عبدي و رسولي ، فعلمت أنه اكرم خلقك عليك ، فتاب الله عليه ، و غفر له .
و هذا عند قائله تأويل قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه .
و في رواية الأجري قال : فقال آدم ، لما خلقتني ر فعت رأسي إلى عرشك فإذا
فيه مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد أعظم
قدراً عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك ، فأوحى الله إليه : و عزتي و جلالي ،
إنه لآخر النبين من ذريتك و لولاه ما خلقتك .
قال : و كان آدم يكنى بأبي محمد ، و قيل بأبي البشر .
و روي عن سريج بن يونس أنه قال : إن لله ملائكة سياحين عيادتها كل دار فيها
أحمد ، أو محمد ، إكراماً منهم لمحمد صلى الله عليه و سلم .
و روى ابن قانع القاضي ، عن أبي الحمراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه
و سلم : لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب : لا إله إلا الله ،
محمد رسول الله ، أيدته بعلي .
وفي التفسير ، عن ابن عباس ـ في قوله تعالى : وكان تحته كنز لهما ـ .
قال : لوح من ذهب فيه مكتوب : عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصب ! عجباً لمن
أيقن بالنار كيف يضحك ! عجباً لمن رأى الدنيا و تقبلها بأهلها كيف يطمئن
إليها ! أنا الله ، لا إله إلا أنا ، محمد عبدي و رسولي .
و عن ابن عباس : على باب الجنة مكتوب : إني أنا الله ، لا إله إلا أنا ، محمد رسول الله ، لا أعذب من قالها .
و ذكر أنه وجد على الحجارة القدي مة مكتوب : محمد تقي مصلح ، و سيد أمين .
و ذكر السمنطاري أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولوداً ولد على أحد جنبيه مكتوب : لا إله إلا الله ، و على الآخر : الله رسول الله .
و ذكر الأخباريون أن ببلاد الهند ورداً أحمر مكتوباً عليه بالأبيض : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
و روي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ألا
ليقم من اسمه محمد ، فليدخل الجنة لكرامة اسمه عليه السلام .
و روى أبن القاسم في سماعه ، و ابن وهب في جامعه ، عن مالك : سمعت أهل مكة يقولون : ما من بيت فيه اسم محمد إلا قد وقوا .
و عنه عليه السلام : ما ضر أحدكم أن يكون في بيته محمد و محمدان و ثلاثة .
و عن عبد الله بن مسعود : إن الله نظر إلى قلوب العباد ، و اختار منها قلب محمد عليه السلام ، فاصطفاه لنفسه ، فبعثه برسالته .
و حكى النقاش أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نزلت : وما كان لكم أن
تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله
عظيما ـ قام خطيباً ، فقال يا معشر أهل الإيمان ، إن الله تعالى فضلني
عليكم تفضيلا ، و فضل نسائي علىنسائكم تفضي لا ... الحديث .

فصل
في تفضيله بما تضمنته كرامة الإسراء من المناجاة و الرؤية
و من خصائصه ـ عليه السلام قصة الإسراء و ما انطوت عليه من درجات الرفعة
مما نبه عليه الكتاب العزيز ، و شرحته صحاح الأخبار ، قال الله تعالى سبحان
الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا
حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 1
] .
و قال تعالى : والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى *
إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق
الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى *
ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند
سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر
وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ سورة النجم / 53 ، الآية : 1 ، 18 ]
.
فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به عليه السلام ، إذ هو نص القرآن ، و
جاءت بتفصيله ، و شرح عجائبه ، و خواص نبينا محمد عليه السلام فيه أحاديث
كثيرة منتشرة ـ رأينا أن نقدم أكملها ، و نشير إلى زيادة م ن غيره يجب
ذكرها :
حدثنا القاضي الشهيد أبو علي ، و الفقيه أبو بحربسماعي عليهما ، والقاضي
أبو عبد الله التميمي ، و غير واحد من شيوخنا ، قالوا : حدثنا أبو العباس
العذري ، [ قالوا ] : حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ،
حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد
بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ أن رسول
الله صلى الله عليه و سلم قال : أتيت بالبراق ، و هو دابة أبيض طويل ، فوق
الحمار ، ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ـ قال : فركبته حتى أتيت
بيت المقدس ، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد
فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر و إناء من لبن ،
فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة .
ثم عرج بنا إلى السماء ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال جبريل . قيل :
و من معك ؟ قال : و من معك ؟ قال محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد
بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بآدم صلى الله عليه و سلم ، فرحب بي ، ودعا
لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت : قال :
جبريل . قيل : و من معك ؟ قال : محمد . قيل : و قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث
إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة : عيسى ابن مريم ، و يحيى بن
زكريا صلى الله عليهما ، فرحبا بي ، ودعوا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فذكر مثل الأول ، ففتح لنا ،فإذا أنا
بيوسف صلى الله عليه و سلم وإذا هو قد أعطى شطر الحسن ، فرحب بي ، ودعا لي
بخير .
ثم عرج إلى السماء الرابعة ، و ذكر مثله ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي ودعا
لي بخير ، قال الله تعالى : ورفعناه مكانا عليا [ سورة مريم / 19 ، الآية :
57 ]
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله ، فإذا أنا بهارون ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فذكر مثله ، فإذا أنا بموسى ، فرحب بي ، ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلىالسماء السابعة ،فذكر مثله ،فإذا أنا إبراهيم مسنداً ظهره
إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه .
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، و إذا ورقها كآذان الفيلة ، و إذا ثمرها
كالقلال ، قال : فلما غشيها من أمر الله غشي تغيرت ، فما [58] أحد من خلق
الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلى ما أوحى ، ففرض علي خمسين
صلاة في كل يوم و ليلة ، فنزلت إلىموس ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت
خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك
، فإني قد بلوت بني إسائيل و خبرتهم .
قال : فرجعت إلى ربي ، فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي . فحط عني خمساً ، فرجعت
إلى موسى ، فقلت : حط عني خمساً ، قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع
إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي تعال و بين موسى حتى
قال : يا محمد ، إنهم خمس صلوات كل يوم و ليلة لكل صلاة عشر ، فتلك خمسون
صلاة ، و من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً و
من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة .
قال : فنزلت حتى إنتهيت إلى موسى ، فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف .
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه .
قال القاضي رضي الله عنه : جود ثابت رضي الله عنه هذا الحديث عن أنس ما شاء ، و لم يأت أحد عنه بأصوب من هذا .
و قد خلط فيه غيره عن أنس تخليطاً كثيراً ، لا سيما من رواية شريك بن أبي
نمر ، فقد ذكر في أوله مجيء الملك له ، و شق بطنه ، و غسله بماء زمزم ، و
هذا إنما كان و هو صبي ، و قبل الوحي .
و قد قال شريك في حديثه : و ذلك قبل أن يوحي إليه ، و ذكر قصة الإسراء . و لا خلاف أنها كانت بعد الوحي .
و قد قال غير واحد : إنها كانت قبل الهجرة بسنة ، و قيل : قبل هذا .
و قد روى ثابت عن أنس ، من رواية حماد بن سلمة أيضاً مجيء جبريل إلى النبي
صلى الله عليه و سلم و هو يلعب مع الغلمان عند ظئره ، و شقه قلبه ـ تلك
القصة مفردة من حديث الإسراء كما رواه الناس ، فجود في القصتين ، و في أن
الإسراء إلى بيت المقدس و إلى سدرة المنتهى كان قصة واحدة ، و أنه وصل إلى
بيت المقدس ، ثم عرج به من هناك ، فأزاح كل أشكال أوهمه غيره .
وقد روى يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم ، قال : فرج سقف بيتي ، و أنا بمكة ، فنزل جبريل ،
ففرج صدري ، ثم غسله من ماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة و
إيماناً ، فأفرغها من صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بنا إلى السماء .
. . فذكر القصة .
و روى قتادة الحديث ، بمثله ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، و فيها تقديم
و تأخير ونقص ، و خلاف في ترتيب الأنبياء في السموات .
و حديث ثابت ، عن أنس ـ أتقن و أجود .
و قد وقعت في حديث الإسراء ، زيادات نذكر منها نكتاً مفيدة في عرضنا :
منها حديث ابن شهاب ، و فيه : قول : كل نبي له : مرحبا بالنبي الصالح ، و الأخ الصالح ،
إلا آدم و إبراهيم فقالا له : و الابن الصالح .
و فيه ـ من طريق ابن عباس : ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام .
و عن أنس : ثم انطلق بي حتى أتيت سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي ؟ قال : ثم أدخلت الجنة .
و في حديث مالك بن صعصعة : فلما جاوزته ـ يعني [ 59 ] موسى ـ بكى ، فنودي :
ما يبكيك ؟ قال : رب ، هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما
يدخل من أمتي .
و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : و قد رأيتني في جماعة من الأنبياء ،
فحانت الصلاة ، فأممتهم ، فقال قائل : يا محمد ، هذا مالك خازن النار ،
فسلم عليه . فالتفت فبدأني بالسلام .
و في حديث أبي هريرة : ثم سار حتى أتى إلى بيت المقدس ، فنزل فربط فرسه إلى
صخرة ، فصلى مع الملائكة ، فلما قضيت الصلاة قالوا : يا جبريل ، من هذا
معك ؟ قال : هذا محمد رسول الله خاتم النبين : قالوا : و قد أرسل إليه ؟
قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ و خليفة ، فنعم الأخ و نعم الخليفة !
ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم ، و ذكر كلام كل واحد منهم ، و هم
إبراهيم ، و موسى و عيسى ، و داود ، و سليمان .
ثم ذكر كلام النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : و إن محمداً صلى الله عليه
و سلم أثنى على ربه عز وجل فقال : كلكم أثنى على ربه ، و أنا أثنى على ربي
. الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين ، و كافة للناس بشيراً و نذيراً ، و
أنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شيء . و جعل أمتي خير أمة ، و جعل أمتي أمة
وسطاً ، و جعل أمتي هم الأولون ، و هم الآخرون ، و شرح لي صدري ، و وضع
عني وزري ، و رفع لي ذكري ، و جعلني فاتحاً و خاتماً .
فقال إبراهيم : بهذا فضلكم محمد .
ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا ، و من سماء إلى سماء ، نحو ما تقدم .
و في حديث ابن مسعود : و انتهي بي إلى سدرة المنتهى ، و هي في السماء
السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، و إليها ينتهي ما
يهبط من فوقها فيقبض منها ، قال : إذ يغشى السدرة ما يغشى ، قال : فراش من
ذهب .
و في رواية أبي هريرة ، من طريق الربيع بن أنس . فقيل لي : هذه السدرة
المنتهى ينتهي إليها كل أحد من أمتك خلا على سبيلك ، و هي السدرة المنتهى ،
يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، و أنهار من لبن لم يتغير طعمه ، و
أنهار من خمر لذة للشاربين ، و أنهار من عسل مصفى ، و هي شجرة يسير الراكب
في ظلها سبعين عاماً ، و إن ورقة منها مظلة الخلق ، فغشيها نور ، و غشيتها
الملائكة .
قال : فهو قوله : إذ يغشى السدرة ما يغشى [ سورة النجم / 53 ، الآية : 16 ] .
فقال الله تبارك و تعالى له : سل . فقال : إنك اتخذت إبراهيم خليلاً و
أعطيته ملكاً عظيماً . و كلمت موسى تكليماً ، و أعطيت داود ملكاً عظيماً ، و
ألنت له الحديد و سخرت له الجبال و أعطيت سليمان ملكاً عظيماً ، و سخرت له
الجن و الإنس و الشياطين و الرياح ، و أعطيته ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده
، و علمت موسى التوراة و الإنجيل ، و جعلته يبريء الأكمه و الأبرص ، و
أعذته و أمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن له عليهما سبيل .
فقال له ربه تعالى : قد اتخذتك خليلاً . فهو مكتوب في التوراة : محمد حبيب
الرحمن ، و أرسلتك إلى الناس كافة ، و ج علت أمتك هم الأولون ، و هم
الآخرون ، و جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي و رسولي ، و
جعلتك أول النبيين خلقاً ، و آخرهم بعثاً ، و أعطيتك سبعاً من المثاني ، و
لم أعطيها نبياً قبلك ، و أعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي لم
أعطيها نبياً قبلك [ 60 ] ، و جعلتك فاتحاً و خاتماً .
و في الرواية الأخرى قال : فأعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثاً :
أعطي الصلوات الخمس ، و أعطي خواتيم سورة البقرة ، و غفر لمن لا يشرك بالله
شيئاً من أمته المقمحات .
و قال : ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى : رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح .
و في حديث شريك أنه رأى موسى في السابعة ـ قال : بتفضيل كلام الله .
قال : ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله ، فقال موسى : لم أظن أن يرفع علي أحد .
و قد روي عن أنس أنه صلى الله عليه و سلم صلى بالأنبياء ببيت المقدس .
[ و عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
بينما أنا قاعد ذات يوم إذ دخل جبريل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها
مثل وكري الطائر ، فقعد في واحدة و قعدت في الأخرى ، فنمت حتى سدت ال
خافقين . و لو شئت لمست السماء ، و أنا أقلب طرفي ، و نظرت جبريل كأنه حلس
لاطيء فعرفت فضل علمه بالله علي ، و فتح لي باب السماء ، و رأيت النور
الأعظم ، ولط دوني الحجاب ، و فرجه الدر و الياقوت .
ثم أوحى الله إلي ما شاء أن يوحي ] .
و ذكر البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : [ لما أراد الله تعالى أن
يعلم رسوله الآذان جاء جبريل بدابة يقال لها البراق ، فذهب يركبها ،
فاستضعفت عليه ، فقال لها جبريل : اسكني ، فو الله ما ركبك عبد أكرم على
الله من محمد صلى الله عليه و سلم ، فركبها حتى أتى إلى الحجاب الذي يلي
الرحمن تعالى ، فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب ، فقال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : يا جبريل ، من هذا ؟
قال : و الذي بعثك بالحق ، إني لأقرب الخلق مكاناً ، و إن هذا الملك ما
رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه . فقال الملك : الله أكبر . الله أكبر . فقيل
له من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر . أنا أكبر .
ثم قال الملك : أشهد أن لا إله إلا الله . فقيل له من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا الله لا إله إلا أنا .
و ذكر مثل هذا في بقية الأذان ، إلا أنه لم يذكر جواباً عن قوله : حي على الصلاة ، حي على الفلاح .
و قال : [ ثم أخذ الملك بيد محمد ، فقدمه ، فأم أهل السماء ، فيهم آدم و نوح ] .
قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، راويه : أكمل الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم الشرف على أهل السموات و الأرض .
قال القاضي ـ رضي الله عنه : ما في هذا الحديث من ذكر الحجاب فهو في حق
المخلوق لا في حق الخالق ، فهم المحجوبون ، و الباري جل اسمه منزه عما
يحجبه ، إذ الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس . و لكن حجبه على أبصار خلقه و
بصائرهم و إدراكاتهم بما شاء و كيف شاء ، و متى شاء ، كقوله تعالى : كلا
إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ سورة المطففين / 83 ، الآية : 15 ] .
فقوله في هذا الحديث : الحجاب ، و إذ خرج ملك من الحجاب ـ يجب أن يقال :
إنه حجاب حجب به من وراءه من ملائكته عن الإطلاع على ما دونه من سلطانه و
عظمته ، و عجائب ملكوته و جبروته .
و يدل عليه من الحديث قول جبريل ـ عن الملك الذي خرج من ورائه : إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت فبل ساعتي هذه .
فدل على أن هذا الحجاب لم يختص بالذات .
و يدل عليه قول كعب في تفسير : سدرة المنتهى قال : إليها ينتهي علم الملائ كة ، و عندها يجدون أمر الله ، لا يجاوزها علمهم .
و أما قوله : الذي بلي الرحمن فيحمل على حذف المضاف ، أي بلي عرش الرحمن ،
أو أمراً ما من عظيم آياته ، أو مبادىء حقائق معارفه ، مما هو أعلم به ،
كما قال تعالى : واسأل القرية ، أي أهلها .
و قوله : فقيل من وراء الحجاب : صدق [ 61 ] عبدي ، أنا أكبر فظاهره أنه سمع
في هذا الموطن كلام الله ، و لكن من وراء الحجاب ، كما قال : وما كان لبشر
أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ، أي و هو لا يراه ، حجب بصره عن
رؤيته .
فإن صح القول بأن محمداً صلى الله عليه و سلم رأى ربه ـ عز و جل ـ فيحتمل
أنه في غير هذا الموطن بعد هذا أو قبله ، رفع الحجاب عن بصره حتى رآه . و
الله أعلم .
فصل
هل كان الإسراء بالروح أو بالجسد ؟
ثم اختلف السلف و العلماء : هل كان إسراء بروحه أو جسده ؟ على ثلاث مقالات :
فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح ، و أنه رؤيا منام ، مع اتفاقهم أن رؤيا
الأنبياء حق روحي ، و إلى هذا ذهب معاوية .
و حكى عن الحسن ، و المشهور عنه خلافه ، و إليه أشار محمد بن اسحاق ، و
حجتهم قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس .
و ما حكوا عن عائشة رضي الله عنها : ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و قوله : بينا أنا نائم .
و قول أنس : و هو نائم في المسجد الحرام ... و ذكر القصة ، ثم قال في آخرها : فاستيقظت و أنا بالمسجد الحرام .
وذهب معظم السلف و المسلمين إلى أنه إسراء بالجسد و في اليقظة ، و هذا هو
الحق ، و هو قول ابن عباس ، و جابر ، و أنس ، و حذيفة ، و عمر ، و أبي
هريرة ، و مالك بن صعصعة ، و أبي حبة البدري ، و ابن مسعود ، و الضحاك ، و
سعيد بن جبير ، و قتادة ، و ابن المسيب ، و ابن شهاب ، و ابن زيد ، و الحسن
، و إبراهيم ، و مسروق ، و مجاهد ، و عكرمة ، و ابن جريج ، و هو دليل قول
عائشة ، و هو قول الطبري ، و ابن حنبل ، جما عة عظيمة من المسلمين . و قول
أكثر المتأخرين من الفقهاء و المحدثين و المتكلمين و المفسرين .
و قالت طائفة : كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس ، و إلى السماء
بالروح ، و احتجوا بقوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى ، فجعل [ فجعل إلى المسجد الأقصى ] غاية الإسراء
الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة ، و التمدح بتشريف النبي محمد الله صلى
الله عليه و سلم به ، و إظهار الكرامة له بالإسراء إليه .
قال هؤلاء : و لو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره ، فيكون أبلغ في المدح .
ثم اختلفت هذه الفرقتان : هل صلى ببيت المقدس أم لا ؟
ففي حديث أنس وغيره ما تقدم من صلاته فيه . و أنكر ذلك حذيفة بن اليمان ، و قال : و الله ما زال عن ظهر البراق حتى رجع .
قال القاضي و الحق من هذا و الصحيح إن شاء الله ـ إنه إسراء بالجسد و الروح
في القصة كلها ، و عليه تدل الآية ، و صحيح الأخبار ، و الإعتبار ، و لا
يعدل عن الظاهر و الحقيقة إلى التأويل إلا عند الإستحالة ، و ليس في
الإسراء بجسده و حال يقظته استحالة ، إذ لو كان مناماً لقال : بروح عبده ، و
لم يقل : بعبده . و قوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى ، و لو كان مناماً
لما كانت فيه آية و لا معجزة ، و لما استبعده الكفار ، و لا كذبوه فيه ، و
لا ارتد به ضعفاء من أسلم ، و افتتنوا به ، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر
، بل لم يكن منهم ذلك [ 62 ] إلا و قد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه و
حال يقظته ، إلى ما ذكر في الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في
رواية أنس ـ أو في السماء على ما روي غيره و ذكر مجيء جبريل له بالبراق و
خبر المعراج ، و استفتاح السماء ، فيقال : من معك ؟ فيقول : محمد ، و لقائه
الأنبياء فيها ، و خبرهم معه ، و ترحيبهم به ، و شأنه في فرض الصلاة و
مراجعته مع موسى في ذلك .
و في بعض هذه الأخبار : فأخذ ـ يعني جبريل ـ بيدي فعرج بي إلى السماء ...
إلى قوله : ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام و أنه وصل إلى
سدرة المنتهى ، و أنه دخل الجنة ، و رأى فيها ما ذكره .
قال ابن عباس : هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه و سلم لا رؤيا منام .
و عن الحسن فيه : بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبة ، فقمت
فجلست فلم أر شيئاً ، فعدت لمضجعي ـ ذكر ذ لك ثلاثاً ، فقال في الثالثة :
فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد فإذا بدابة .
و ذكر خبر البراق .
و عن أم هانىء : ما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم إلا و هو في بيتي ،
تلك الليلة صلى العشاء الآخرة ، و نام بيننا ، فلما كان قبيل الفجر أهبنا
رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلما صلى الصبح و صلينا قال : يا أم هانىء
، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس
فصليت فيه ، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون .
و هذا بين في أنه بجسمه .
و عن أبي بكر من رواية شداد بن أوس عنه ـ قال النبي صلى الله عليه و سلم ليلة أسرى به :
طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك . فأجابه : إن جبريل عليه السلام حملني إلى المسجد الأقصى .
و عن عمر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صليت
ليلة أسري بي في مقدم المسجد ، ثم دخلت الصخرة فإذا بملك قائم معه آنية
ثلاث .. و ذكر الحديث .
و هذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة ، فتحمل على ظاهرها .
و عن أبي ذر ، عنه صلى الله عليه و سلم : فرج سقف بيتي و أنا بمكة ، فنزل
جبريل ، فشرح صدري ، ثم غ سله بماء زمزم ... إلى آخر القصة ، ثم أخذ بيدي ،
فعرج بي . و عن أنس : أتيت فانطلق بي إلى زمزم ، فشرح عن صدري .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه : لقد رأيتني في الحجر ، و قريش تسألني عن
مسراي ، فسألتني عن أشياء لم أثبتها ، فكربت كرباً ما كربت مثله قط ، فرفعه
الله لي أنظر إليه .
و نحوه عن جابر .
و قد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : ثم رجعت إلىخديجة و ما تحولت عن جانبها .

فصل
إبطال حجج من قال إنها نوم
احتجوا بقوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ، فسماها رؤيا ؟
قلنا : قوله سبحانه و تعالى : الذي أسرى بعبده ـ يرده ، لأنه لا يقال في النوم : أسرى .
وقوله : فتنة للناس . يؤيد أنها رؤيا عين ، و إسراء بشخص ، إذ ليس في الحلم
فتنة . و لا يكذب به أحد ، لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في
سلعة واحدة في أقطار متباينة [ 63 ] .
على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية ، فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في
قضية الحديبية ، و ما وقع في نفوس الناس من ذلك . و قيل غير هذا .
و أما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناماً .
و قوله في حديث آخر : بين النائم و اليقظان .
و قوله أيضاً : و هو نائم . و قوله : ثم استيقظت ـ فلا حجة فيه ، إذ قد
يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان و هو نائم ، أو أول حمله و الإسراء به و
هو نائم ، و ليس في الحديث أنه كان نائماً في القصة كلها إلا ما يدل عليه :
ثم استيقظت و أنا في المسجد الحرام ، فلعل قوله : استيقظت بمعنى أصبحت ،
أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته .
و يدل عليه أن مسراه لم يكن طول ليله ، و إنما كا ن في بعضه .
و قد يكون قوله : استيقظت و أنا في المسجد الحرام لما كان غمره من عجائب ما
طالع من ملكوت السموات و الأرض ، و خامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى ، و
ما رأى من آيات ربه الكبرى ، فلم يستفق و يرجع إلى حال البشرية إلا و هو
بالمسجد الحرام .
و وجه ثالث أن يكون نومه و استيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، و لكنه أسرى
بجسده و قلبه حاضر ، و رؤيا الأنبياء حق ، تنام أعينهم و لا تنام قلوبهم .
و قد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميص عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله تعالى .
و لا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، و لعله كانت له في هذا الإسراء حالات .
و وجه رابع ، و هو أن يعبر بالنوم ها هنا عن هيئة النائم من الإضطجاع ، و
يقويه قوله في رواية عبد بن حميد ، عن همام : بينا أنا نائم ـ و ربما قال :
مضطجع .
و في رواية هدبة ، عنه : بينا أنا نائم في الحطيم ـ و ربما قال : في الحجر ـ
مضطجع و قوله في الرواية الأخرى : بين النائم و اليقظان .
فيكون سمى هيئة النائم غالباً .
و ذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات : من النوم ، و ذكر شق البطن ، و دنو الرب
عز و جل الواق عة في هذا الحديث إنما هي من رواية شريك عن أنس ، فهي منكرة
من روايته ، إذشق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره صلى الله
عليه و سلم و قبل النبوة ، و لأنه قال في الحديث : قبل أن يبعث ، و الإسراء
بإجماع كان بعد المبعث ، فهذا كله يوهن ما وقع في رواية أنس ، مع أن أنساً
قد بين من غير طريق أنه إنما رواه عن غيره ، و أنه لم يسمعه من النبي صلى
الله عليه و سلم ، فقال ـ مرة : عن مالك بن صعصعة ، و في كتاب مسلم : لعله
عن مالك بن صعصعه ـ على الشك . و قال مرة : كان أبو ذر يحدث .
و أما قول عائشة : ما فقد جسده ، فعائشة لم تحدث به عن مشاهدة ، لأنها لم
تكن حينئذ زوجه ، و لا في سن من يضبط ، و لعلها لم تكن ولدت بعد ، على
الخلاف في الإسراء متى كان ، فإن الإسراء كان في أول الإسلام على قول
الزهري و من وافقه بعد المبعث بعام و نصف ، و كانت عائشة في الهجرة بنت نحو
ثمانية أعوام .
و قد قيل : كان الإسراء لخمس قبل الهجرة . و قيل : قبل الهجرة بعام . و الأشبه إنه لخمس .
و الحجة لذلك تقول ، [64] و ليست من غرضنا ، فإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل
أنها حدثت بذلك عن غيرها ، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها ، و غي رها يقول
خلافه مما وقع نصاً في حديث أم هانىء و غيره .
و أيضاً فليس حديث عائشة رضي الله عنها بالثابت ، و الأحاديث الأخر أثبت ، ولسنا نعني حديث أم هانىء ، و ما ذكرت فيه خديجة .
و أيضاً فقد رويى في حديث عائشة : [مافقدت ] ، و لم يدخل بها النبي صلى الله عليه و سلم إلا بالمدينة .
و كل هذا يهنه ، بل الذي يدل عليه صحيح قولها : إنه بجسده ، لإنكارها أن
تكون رؤياه لربه رؤيا عين ، و لو كانت عندها مناماً لم تنكره .
فإن قيل : فقد قال تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى ـ فقد جعل ما رآه للقلب ، و هنا يدل على أنه رؤيا نوم و وحي ، لا مشاهدة عين و حس .
قلنا : يقابله قوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى ـ فقد أضاف الأمر للبصر .
و قد قال أهل التفسير في قوله تعالى . ما كذب الفؤاد ما رأى ، أي لم يوهم القلب العين غير الحقيقة ، بل صدق رؤيتها .
و قيل : ما أنكر قلبه ما رأته عينه .
فصل
رؤيته لربه عز و جل و اختلاف السلف فيها
و أما رؤيته ـ صلى الله عليه و سلم لربه جل و عز ـ فاختلف السلف فيها ، فأنكرته عائشة .
حدثنا أبو الحسن سراج بن عبد الملك الحافظ بقراءتي عليه ، قال حدثني أبي و
أبو عبد الله بن عتاب الفقيه ، قالا : حدثنا القاضي يونس بن مغيث ، حدثنا
أبو الفضل الصلقي ، حدثنا ثابت بن قاسم بن ثابت ، عن أبيه وجده ، قالا :
حدثنا عبد الله بن علي ،
قال : حدثنا محمود بن آدم ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر عن
مسروق ـ أنه قال لعائشة رضي الله عنها ـ يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد ربه ؟
فقالت : لقد قف شعري مما قلت . ثلاث من حدثك بهن فقد كذب : من حدثك أن
محمد اً رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
وهو اللطيف الخبير ، و ذكر الحديث .
و قال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها ، و هو المشهور عن ابن مسعود .
و مثله عن أبي هريرة أنه [ ا ] : إنما رأى جبريل . و اختلف عنه . و قال
بإنكار هذا و امتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين ، و الفقهاء و
المتكلمين .
و عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بعينه . وروى عطاء عنه ـ أنه رآه بقلبه .
و عن أبي العالية ، عنه : رآه بفؤاده مرتين .
و ذكر ابن إسحاق أن عمر أرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله : هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم .
و الأشهر عنه انه رأى ربه بعينه ، روي ذلك عنه من طرق ، و قال : إن الله
تعالى اختص موس بالكلام ، و إبراهيم بالخلة ،و محمداً بالرؤية و حجته قوله
تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى
[ سورة النجم /53 ، الآية : 11 ، 13 ] .
قال الماوردي : قيل : إن الله تعالى قسم كلامه و رؤيته بين موس ، و محمد
صلى الله عليه و سلم ، فر آه محمد مرتين ، و كلمه موس مرتين .
و حكى أبو الفتح الرازي ، و أبو الليث السمرقدي الحكاية عن كعب .
و روى عبد الله بن الحارث ، قال : اجتمع ابن عباس و كعب ، فقال ابن عباس :
أما نحن بنو هاشم فنقول : إن محمد اً قد رأى ربه مرتين ، فكبر كعب حتى
جاوبته الجبال ،
و قال : إن الله قسم رؤيته و كلامه بين محمد و موس ، فكلمه موسى ، و رآه محمد بقلبه .
و روى شريك [ 65 ] عن أبي ذر رضي الله عنه في تفسير الآية ، قال : رأى النبي صلى الله عليه و سلم ربه .
و ح كى السمرقندي ، عن محمد بن كعب القرظي ، و ربيع بن أنس ـ أن النبي صلى
الله عليه و سلم سئل : هل رأيت ربك ؟ قال : رأيته بقؤادي ، و لم أره بعيني .

و روى مالك بن يخامر ، عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال :
رأيت ربي ... و ذكر كلمة ، فقال : يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث
.
و حكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف با الله لقد رأى محمد ربه .
و حكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة .
و حكى بعض المتكليمين هذا المذهب عن ابن مسعود .
و حكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة . هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم .
و حكى النقاش ، عن أحمد بن حنبل : أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه ـ حتى انقطع نفسه ـ يعني نفس أحمد .
و قال أبو عمر : قال أحمد بن حنبل : رآه بقلبه ، و جبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار .
و قال سعيدبن جبير : لا أقول رآه ، و لا لم يره .
و قد اختلف في تأويل الآية عن ابن عباس ، و عكرمه ، و الحسن ، و ابن مسعود ،
فحكى عن ابن عباس و عكرمة : رآه بقلبه . و عن الحسن و ابن مسعود : رأى
جبريل . و حكى عبد الله بن أحمد بن حن بل ، عن أبيه ، أنه قال : رآه .
وعن ابن عطاء في قوله تعالى: ألم نشرح لك صدرك ـ قال : شرح صدره للرؤية و شرح صدر موسى للكلام .
و قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه و جماعة من أصحاب أنه
رأى الله تعالى ببصره و عيني رأسه ، ، و قال : كل آية أوتيها نبي من
الأنبياء عليهم السلام فقد أتي مثلها نبينا ، و خص من بينهم بتفضيل الرؤية .

و وقف بعض مشايخنا في هذا ، و قال : ليس عليه دليل واضح ، و لكنه جائز أن يكون .
قال القاضي أبو الفضل : و الحق الذي لا إمتراء فيه ـ أن رؤيته تعالى في الدنيا جائ

descriptionكتاب الشفاء .. كامل Emptyرد: كتاب الشفاء .. كامل

more_horiz
فصل
في تفضيله بالمحبة و الخلة
جاءت بذلك الأثار الصحيحة ، و اختص على ألسنة المسلمين بحبيب الله ، أخبرنا
أبو القاسم بن إبراهيم الخطيب و غيره ، عن كريمة بنت أحمد ، حدثنا أبو
الهيثم ، و حدثنا حسين بن محمد الحافظ سماعاً عليه ، حدثنا القاضي أبو
الوليد ، حدثنا عبد بن أحمد ، حدثنا أبو الهيثم ، حدثنا أبو عبد الله محمد
بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد بن محمد ، حدثنا أبو عامر ،
حدثنا فليح ، حدثنا أبو النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد ، عن النبي
صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال : لو كنت متخذا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا
بكر .
و في حديث آخر و إن صاحبكم خليل الله .
و من طريق عبد الله بن مسعود : و قد اتخذ الله صاحبكم خليلاً .
و عن ابن عباس ، قال : جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم
ينتظرونه ، قال : فخرج و عن ابن عباس ، قال : جلس ناس من أصحاب النبي صلى
الله عليه و سلم ينتظرونه ، قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون ،
فسمع حديثهم ، فقال بعضهم : عجباً ! إن الله اتخذ من خلقه خليلاً ، اتخذ
إبراهيم خليلاً .
و قال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى ، كلمه الل ه تكليماً .
و قال آخر : فعيسى كلمه الله و روحه .
و قال آخر : و آدم اصطفاه الله .
فخرج عليهم فسلم ، و قال : قد سمعت كلامكم و عجبكم ، أن الله تعالى اتخذ
إبراهيم خليلاً ، و هو كذلك ، و موسى نجي الله و هو كذلك ، و موسى نجي الله
، و هو كذلك ، و عيسى روح الله ، و هو كذلك ، و آدم اصطفاه الله ، و هو
كذلك ، ألا و أنا حبيب الله و لا فخر ، و أنا أول شافع و أول مشفع و لا فخر
، و أما من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها و معي فقراء المؤمنين و
لا فخر ، و أنا أكرم الأولين و الآخرين ولا فخر .
و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و
سلم : إني اتخذتك خليلاً ، فهو مكتوب في التوراة : أنت حبيب الرحمن .
قال القاضي أبو الفضل : اختلف في تفسير الخلة ، و اصل اشتقاقها ، فقيل :
الخليل : المنقطع إلى الله الذي ليس في انقطاعه إليه و محبته له اختلال .
و قيل : الخليل المختص ، و اختار هذا القول غير واحد .
و قال بعضهم : أصل الخلة الاستصفاء : و سمي إبراهيم [ 71 ] خليل الله ،
لأنه يوالي فيه و يعادي فيه ، و خلة الله له نصره ، و جعله إماماً لمن بعده
.
و قيل : ال خليل : أصله الفقير المحتاج المنقطع ، مأخوذ من الخلة و هي
الحاجة ، فسمي بها إبراهيم ، لأنه قصر حاجته على ربه ، و انقطع إليه بهمه ،
و لم يجعله قبل غيره ، و إذا جاءه جبريل و هو في المنجنيق ، ليرمى به في
النار ، فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا .
و قال أبو بكر بن فورك : الخلة : صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار .
و قال بعضهم : أصل الخلة المحبة ، و معناها الإسعاف ، و الإلطاف ، و
الترفيع ، و التشفيع ، و قد بين ذلك في كتابه تعالى بقوله : وقالت اليهود
والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن
خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما
وإليه المصير [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 18 ] .
فأو جب للمحبوب ألا يؤاخذ بذنوبه .
قال : هذا ، و الخلة أقوى من النبوة ، لأن النبوة قد تكون فيها العداوة ،
كما قال تعالى : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا
وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم [ سورة التغابن /64 ، الآية : 14] .
و لا يصح أن تكون عداوة مع خلة ، فإذاً تسمية إبراهيم و محمد عليهما السلام
بالخلة إما بانقطاعهما إلى الله و وقف حوائجهما عليه ، و الانقطاع عمن
دونه ، و الإضراب عن الوسائط و الأسباب ، أو لزيادة الإختصاص منه تعالى
لهما ، و خفي ألطافه عندهما ، و ما خالل بواطنهما من أسرار إلهيته ، و
مكنون غيوبه و معرفته ، أو لاستصفائه لهما ، و استصفاء قلوبهما عمن سواه ،
حتى لم يخاللهما حب لغيره ، و لهذا قال بعضهم : الخليل من لايتسع قلبه
لسواه و هو عندهم معنى قوله صلى الله عليه و سلم : و لو كنت متخذاً خليلاً
لاتخذت أبا بكر خليلا ، لكن أخوة الإسلام .
و اختلف العلماء و أرباب القلوب : أيهما أرفع درجة : الخلة أو درجة المحبة ؟
فجعلهما بعضهم سواء فلا يكون الحبيب إلا خليلا ، و لا الخليل إلا حبيباً لكنه خص إبراهيم بالخلة ، و محمداً بالمحبة .
و بعضهم قال : درجة الخلة أرفع ، و احتج بقوله صلى الله عليه و سلم : لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي عز و جل فلم يتخذه .
و قد أطلق المحبة لفاطمة ، و ابنيها ، و أسامة و غيرهم .
و أكثرهم جعل المحبة أرفع من الخلة ، لأن درجة الحبيب نبينا أرفع من درجة الخليل إبراهيم .
و أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب ، و لكن هذا في حق من يصح الميل منه
و الإنتف اع بالوفق ، و هي درجة المخلوق ، فأما الخالق ـ جل جلاله ـ فمنزه
عن الأغراض ، فمحبته لعبده تمكينه من سعادته ، و عصمته و توفيقه و تهيئة
أسباب القرب ، و إفاضة رحمته عليه ، و قصواها كشف الحجب عن قلبه حتى يراه
بقلبه ، و ينظر إليه ببصيرته ، فيكون كما قال في الحديث : فإذا أحببته كنت
سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ، و لسانه الذي ينطق به .
و لا ينبغي أن يفهم من هذا سوى التجرد لله ، و الإنقطاع إلى الله ، و
الإعراض عن غير الله ، و صفاء القلب لله ، و إخلاص الحركات لله ، كما قالت
عائشة رضي الله عنه : كان خلقه القرآن ، برضاه يرضى ، و بسخطه يسخط ، و من
هذا عبر بعضهم عن الخلة بقوله :
قد تخللت مسلك الروح مني و بذا سمي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي و إذا ما سكت كنت الغيلا
فإذا [ 72 ] مزية الخلة و خصوصية المحبة حاصلة لنبينا صلى الله عليه و سلم
بما دلت عليه الآثار الصحيحة المنتشرة ، المتلقاة بالقبول من الأمة ، و كفى
بقوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم
ذنوبكم والله غفور رحيم .
حكى أهل التفسير أن هذه الآية لما نزلت قا ل الكفار : إنما يريد محمد أن
نتخذه حناناً كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ، فأنزل الله ـ غيظاً لهم و
رغماً على مقالتهم هذه الآية : قل أطيعوا الله والرسول ، فزاده شرفاً
بأمرهم بطاعته ، و قرنها بطاعته ، ثم توعدهم على التولي عنه بقوله : فإن
تولوا فإن الله لا يحب الكافرين .
و قد نقل الإمام أبو بكر بن فورك عن بعض المتكلمين كلاماً في الفرق بين
المحبة و الخلة يطول ، جملة اشارته إلى تفضيل مقام المحبة على الخلة ، و
نحن نذكر منه طرفاً يهدي إلى ما بعده .
فمن ذلك قولهم : الخليل يصل بالواسطة ، من قوله تعالى : وكذلك نري إبراهيم
ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ سورة الأنعام / 6 ، الآية : 75
] .
و الحبيب يصل لحبيبه به ، من قوله : فكان قاب قوسين أو أدنى .
و قيل : الخليل : الذي تكون مغفرته في حد الطمع ، من قوله : والذي أطمع أن
يغفر لي خطيئتي يوم الدين [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 82 ] .
و الحبيب الذي مغفرته في حد اليقين ، من قوله : ليغفر لك الله ما تقدم من
ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما [ سورة الفتح / 48 ،
الآية : 2 ] .
و الخليل قال : ولا تخزني يوم يبعثون [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 87 ] .
و الحبيب قيل له : يوم لا يخزي الله النبي ، فابتدىء بالبشارة قبل السؤال .
و الخليل قال في المحنة : حسبي الله [ سورة الزمر / 39 ، الآية : 38 ] .
و الحبيب قيل له : يا أيها النبي حسبك الله [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 64 ] .
و الخليل قال : اجعل لي لسان صدق في الآخرين [ سورة الشعراء / 26 ، الآية :
84 ] . و الحبيب قيل له : ورفعنا لك ذكرك ، أعطي بلا سؤال .
و الخليل قال : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ سورة إبراهيم / 14 ، الآية : 35 ] .
و الحبيب قيل له : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
و فيما ذكرناه تنبيه على مقصد أصحاب هذا المقال من تفضيل المقامات و
الأحوال ، و كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا [ سورة
الإسراء / 17 ، الآية : 84 ] .

فصل
في تفصيله بالشفاعة و المقام المحمود

قال الله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [سورة الإسراء / 17 ، الآية : 79 ] .
أخبرنا الشيخ أبو علي الغساني الجياني فيما كتب إلي بخطه ، حدثنا سراج بن
عبد الله القاضي ، حدثنا أبو محمد الأصيلي ، حدثنا أبو زيد ، و أبو أحمد ،
قالا : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا
إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، قال : سمعت ابن عمر
يقول : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا
فلان ، اشفع لنا ، يا فلان اشفع لنا ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى
الله عليه و سلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود .
و عن أبي هريرة : سئل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ يعني قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، فقال : هي الشفاعة .
و روى كعب بن مالك ، عنه صلى الله عليه و سلم : يحشر الناس يوم القيامة
فأكون أنا و أمتي على تل و يكسوني ربي حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء
الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود .
و عن ابن عمر [ 73 ] رضي الله عنه ـ و ذكر حديث الشفاعة ـ قال : فيمشي حتى
يأخذ بحلقة الجنة ، فيومئذ يبعثه الله المقام المحمود الذي وعده .
و عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه و سلم أنه قيامه عن يمين العرش مقاماً لا يقومه غيره ، يغبطه فيه الأولون و الآخرون .
و نحوه عن كعب والحسن .
و في رواية : هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه .
عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لقائم
المقام المحمود . قيل : و ما هو ؟ قال : ذلك يوم ينزل الله تبارك و تعالى [
على كرسيه ] . . الحديث .
و عن أبي موسى رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه و سلم : خيرت بين أن يدخل
نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ، لأنها أعم ، أترونها للمتقين
؟ لا ، و لكنها للمذنبين الخطائين .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، ماذا ورد عليك
في الشفاعة ؟ فقال : شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً ، يصدق
لسانه قلبه .
و عن أم حبيبة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أريت ما تلقى
من بعدي ، و سفك بعضهم دماء بعض ، و سبق لم من الله ما سبق للأمم قبلهم ،
فسألت الله أن يؤتيني شفاعة يوم القيامة فيهم ، ففعل .
و قال حذيفة : يجمع الله الناس ، في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي ، و
ينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا ، سكوتاً لا تكلم نفس إلا بإذنه ،
فينادى محمد فيقول : لبيك و سعديك ، و الخير في يديك ، و الشر ليس إليك ، و
المهتدي من هديت ، و عبدك بين يديك ، و لك و إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك
إلا إليك ، تباركت و تعاليت ، سبحانك رب البيت ـ قال : فذلك المقام المحمود
الذي ذكر الله .
و قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا دخل أهل النار النار ، و أهل الجنة
الجنة ، فتبقى آخر زمرة من الجنة و آخر زمرة من النار ، فتقول زمرة النار
لزمرة الجنة : ما نفعكم إيمانكم ، فيدعون ربهم ويضجون ، فيسمعهم أهل الجنة
فيسلون آدم وغيره بعده في الشفاعة لهم ، فكل يعتذر حتى يأتوا محمداً صلى
الله عليه و سلم ، فيشفع لهم ، فذلك المقام المحمود .
و نحوه عن ابن مسعود أيضاً ، و مجاهد .
و ذكر علي بن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال جابر بن عبد الله ليزيد الفقير : سمعت بمقام محمد ـ يعني الذي بعثه الله فيه ؟
قلت : نعم . قال : فإنه مقام محمد المحمود الذي يخر ج الله به من يخرج ـ يعني من النار ـ و ذكر حديث الشفاعة في إخراج الجهنميين .
و عن أنس نحوه ، و قال : فهذا المقام المحمود الذي وعده .
[ و عن سلمان : المقام المحمود هو الشفاعة في أمته يوم القيامة .
و مثله عن أبي هريرة رضي الله عنه .
و قال قتادة : كان أهل العلم يرون المقام المحمود هو شفاعته يوم القيامة ،
وعلى أن المقام المحمود مقامه عليه الصلاة و السلام للشفاعة مذاهب السلف من
الصحابة و التابعين و عامة أئمة المسلمين .
و بذلك جاءت الشفاعة مفسرةً في صحيح الأخبار عنه عليه الصلاة والسلام :
وجاءت مقالة في تفسيرها شاذةً عن بعض السلف ، يجب ألا تثبت ، إذا لم يعضدها
صحيح أثر ، ولا سند نظر .
ولو صحت لكان لها تأويل غير مستنكر ، لكن ما فسره النبي صلى الله عليه و
سلم في صحيح الآثار برده ، فلا يجب أن يلتفت إليه ، مع أنه لم يأت في كتاب
ولا سنة ، و لا اتفق على المقال أمة ، وفي إطلاق ظاهره منكر من القول وشنعة
] .
و في رواية أنس و أبو هريرة وغيرهما ، دخل حديث بعضهم في حديث بعض : قال
صلى الله عليه و سلم : يجمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة فيهتمون ـ
أو قال : فيلهمون فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا .
و من طريق آخر ، عنه : [ ماج الناس بعضهم في بعض ] .
و عن أبي هريرة : وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم ما لا يطيقون ولا
يحتملون ، فيقولون : ألا تنظرون من يشفع لكم ، فيأتون آدم فيقولون ، زاد
بعضهم : أنت آدم أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، و اسكنك
جنته ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، اشفع لنا عند ربك حتى
يريحنا من مكاننا ، ألا ترى [ 74 ] ما نحن فيه ؟ .
فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله ، ولا يغضب بعده مثله ،
ونهائي عن الشجرة فعصيت ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح .

فيأتون نوحاً فيقولون : أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبداً
شكوراً ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما بلغنا ‍‍‍‍‍‍‍! ألا تشفع لنا إلى
ربك ؟ فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده
مثله ، نفسي ! نفسي !
قال ـ في رواية أنس : ويذكر خطيئته التي أصاب : سؤاله ربه بغير علم .
وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه : وقد كانت لي دعوة دعوتها على قومي ، اذهبوا إلى غيري . اذهبوا إلى إبراهيم ، فإنه خليل الله .
فيأتون إبراهيم ، فيقولون : أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟
فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضباً . . . فذكر مثله ، ويذكر ثلاث كلمات
كذبهن . نفسي ، نفسي ، لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله .
وفي رواية : فإنه عبد آتاه الله التوراة ، وكلمه وقربه نجياً .
قال : فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، ويذكر خطيئته التي أصاب ، وقتله
النفس ، نفسي ، نفسي ، ولكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله وكلمته .
فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد ، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
فأوتى ، فأقول : أنا لها .
فأنطلق فأستاذن على ربي ، فيؤذن لي ، فإذا رأيته وقعت ساجداً .
وفي رواية : فآتي تحت العرش ، فأخر ساجداً .
وفي رواية : فأقوم بين يديه ، فأحمد بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يلهمنيها الله .
وفي رواية : فيفتح الله علي من محامده ، وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي .
قال ـ في رواية أبي هريرة : فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، سل ، تعطه ، و
اشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأقول : يا رب ، أمتي ، يا رب ، أمتي . في قول :
أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، و هم شركاء
الناس فيما سوى ذلك من الأبواب .
و لم يذكر في رواية أنس هذا الفصل ، و قال ـ مكانه : ثم أخر ساجداً ، فيقال
لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، و قل يسمع لك ، و اشفع تشفع ، و سل تعطه .
فأقول : يا رب ، أمتي ، أمتي . فيقال : انطلق ، فمن كان في قلبه مثقال حبة
من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه ، فأنطلق فأفعل .
ثم أرجع إلى ربي ، فأحمده بتلك المحامد و ذكر مثل الأول ، و قال فيه :
مثقال حبة من خردل . قال : فأفعل ، ثم أرجع ... و ذكر مثل ما تقدم ، و قال
فيه : من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل ، فأفعل .
و ذكر في المرة الرابعة : فيقال لي : ارفع رأسك ، و قل يسمع ، و اشفع تشفع ، و سل تعطه .
فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله . قال : ليس ذلك إليك .
و لكن و عزتي و كبريائي و عظمتي و جبريائي لأخرجن من النار من قال : لا إله إلا الله .
و من رواية قتادة عنه ، قال : فأقول يا رب ، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ، أي وجب عليه الخلود .
و عن أبي بكر ، و عقبة بن عامر ، و أبي سعيد ، و حذيفة مثله ، قال : فيأتون
[ 75 ] محمداً فيؤذن له ، و تأتي الأمانة و الرحم فتقومان جنبتي الصراط .
وذكر في رواية أبي مالك ، عن حذيفة : فيأتون محمداً فيشفع ، فيضرب الصراط
فيمرون : أولهم كالبرق ، ثم كالريح ، و الطير ، و شد الرجال ، و نبيكم صلى
الله عليه و سلم على الصراط يقول : اللهم سلم سلم ،حتى يجتاز الناس . و ذكر
آخرهم جوازاً . . . الحديث .
و في رواية أبي هريرة : فأكون أول من يجيز .
و عن ابن عباس ، عنه صلى الله عليه و سلم : يوضع للأنبياء منابر يجلسون
عليها ، ويبقى منبري لا أجلس عيله قائماً ، بين يدي ربي منتصباً ، فيقول
الله تبارك و تعالى : ما تريد بأمتك ؟ فأقول : يا رب ، عجل حسابهم ، فيدعى
بهم ، فيحاسبون .
فمنهم من يدخل برحمته ، و منهم من يدخل الجنة بشفاعتي ، و لا أزال أشفع حتى
أعطى صكاكاً برجال قد أمر بهم إلى النار ، حتى إن خازن النار ليقول : يا
محمد ، ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة .
ومن طريق زياد النميري ، عن أنس ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
أنا أول من تنفلق الأرض عن جمجمته و لا فخر ، و أنا سيد الناس يوم القيا مة
و لا فخر ، و معي لواء الحمد يوم القيامة ، و أنا أول من تفتح له الجنة و
لا فخر ، فآتي فآخذ بحلقة الجنة ، فيقال : من هذا ؟ فأقول : محمد ، فيفتح
لي ، فيستقبلني الجبار تعالى ، فأخر له ساجداً . . . و ذكر نحو ما تقدم .
و من رواية أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر .
فقد اجتمع من اختلاف ألفاظ هذه الآثار أن شفاعته ـ صلى الله عليه و سلم ، و
مقامه المحمود من أول الشفاعات إلى آخرها ، من حين يجتمع الناس للحشر ، و
تضيق بهم الحناجر ، و يبلغ منهم العرق و الشمس و الوقوف مبلغه ، و ذلك قبل
الحساب ، فيشفع حينئذ لإراحة الناس من الموقف ، ثم يوضع الصراط ، و يحاسب
الناس ، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة و حذيفة .
و هذا الحديث أتقن ، فيشفع في تعجيل من لا حساب عليه من أمته إلى الجنة ـ
كما تقدم في الحديث ـ ثم يشفع فيمن وجب عليه العذاب ، و دخل النار منهم حسب
ما تقضيه الأحاديث الصحيحة ، ثم فيمن قال : لا إله إلا الله . و ليس هذا
لسواه صلى الله عليه و سلم .
و في الحديث المنتشر الصحيح : لكل نبي دعوة يدعو بها ، و اختبأت دعوتي شفاعةً لأ متي يوم القيامة .
قال أهل العلم : معناه دعوة أعلم أنها تستجاب لهم ، و يبلغ فيها مرغوبهم ، و
إلا فكم لكل نبي منهم من دعوة مستجابة ، و لنبينا صلى الله عليه و سلم
منها ما لا يعد ، لكن حالهم عند الدعاء بها بين الرجاء و الخوف ، و ضمنت
لهم إجابة دعوة فيما شاءوه يدعون بها على يقين من الإجابة .
و قد قال محمد بن زياد ، و أبو صالح ، عن أبي هريرة في هذا الحديث : لكل
نبي دعوة دعا بها في أمته ، فاستجيب له ، و أنا أريد أن أدخر ، دعوتي شفاعة
لأمتي يوم القيامة .
و قي رواية أبو صالح : لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته .
و نحوه في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة [ 76 ] .
و عن أنس مثل رواية ابن زياد ، عن أبي هريرة .
فتكون هذه الدعوة المذكورة مخصوصةً بالأمة مضمونة الإجابة ، و الإ فقد أخبر
صلى الله عليه و سلم أنه سأل لأمته أشياء من أمور الدين والدنيا و أعطي
بعضها ، و منع بعضها ، وادخر لهم هذه الدعوة ليوم الفاقة ، و خاتمة المحن ،
و عظيم الشؤال و الرغبة .
جزاه الله أحسن ما جزى نبياً عن أمته ، و صلى الله عليه و سلم كثيراً .
فصل
في تفضيله في الجنة بالوسيلة و الدرجة الرفعية و الكوثر و الفضيلة
حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التيمي ، و الفقيه أبو الوليد هشام
بن أحمد ، بقراءتي عليهما ، قالا : حدثنا أبو علي الغساني ، حدثنا النمري ،
حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر التمار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا
محمد بن سلمة ، حدثنا ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، و حيوة ، و سعيد بن أبي
أيوب ، عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن
العاص ـ أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول : إذا سمعتم المؤذن
فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صل علي مرة صلى الله عليه
عشراً ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد
من عباد الله ، و أرجو أن أكون أنا هو . فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه
الشفاعة .
و في حديث آخر ـ عن أبي هريرة : الوسيلة أعلىدرجة في الجنة .
و عن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ .
قلت لجبريل : ما هذا ! قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله . قال : ثم ضرب بيده إلى طينه ، ف استخرج مسكاً .
و عن عائشة و عبد الله بن عمرو مثله ، قال : [ و مجراه على الدر و الياقوت ، و ماؤه أحلى من العسل ، و أبيض من الثلج ] .
و في رواية ـ عنه : [ فإذا هو يجري ، و لم يشق شقاً ، عليه حوض ترد عليه أمتي . . . ] و ذكر حديث الحوض .
و نحوه عن ابن عباس .
و عن [ ابن عباس أيضاً ، قال : الكوثر الخير الذي أعطاه الله إياه .
و قال سعيد بن جبير : و النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله .
و عن حذيفة ـ فيما ذكر صلى الله عليه و سلم عن ربه : وأعطاني الكوثر ، و هو نهر في الجنة ، يسيل في حوضي .
و عن ابن عباس : في قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى ، قال : ألف قصر من لؤلؤ ترابهن المسك ، و فيه ما يصلحهن .
و في رواية أخرى : وفيه ما ينبغي له من الأزواج و الخدم .
فصل
في بيان شبهة ترد على ما تقدم
فإن قلت : إذا تقرر من دليل القرآن ، و صحيح الأثر ، و إجماع الأمة ـ كونه
أكرم البشر ، و أفضل الأنبياء ـ فما معنى الأحاديث الواردة بنهيه عن
التفضيل ؟ كقوله ـ فيما حدثنا الأسدي ، قال : حدثنا السمرقندي ، حدثنا
الفارسي ، حدثنا الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا ابن مثنى ،
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة : سمعت أبا العالية يقول :
حدثني ابن عم نبيكم صلى الله عليه و سلم ـ يعني ابن عباس ، عن النبي صلى
الله عليه و سلم ، قال : ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى .

و في غير هذا الطريق عن أبي هريرة [ 77 ] قال ـ يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما ينبغي لعبد ... الحديث .
و في حديث أبي هريرة ـ في اليهودي الذي قال : و الذي اصطفى موسى على البشر ،
فلطمه رجل من الأنصار ، و قال : تقول ذلك و رسول الله صلى الله عليه و سلم
بين أظهرنا .
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : لا تفضلوا بين الأنبياء .
و في رواية : لا تخبرني على موسى فذكر الحديث .
و فيه : و لا أقول : إن أحداً أفضل من يونس بن متى .
رواية عن أبي هريرة : [ من قال : أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ] .
رواية عن ابن مسعود : [ لا يقولون أحدكم أنا خير من يونس بن متى ] .
و في حديثه الآخر : فجاءه صلى الله عليه و سلم رجل ، فقال له : يا خير البرية ، فقال : ذاك إبراهيم . . . .
فاعلم أن للعلماء في هذه الأحاديث تأويلات :
أحدها : أن نهيه عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم ، فنهى عن
التفضيل ، إذ يحتاج إلى توقيف ، و أن من فضل بلا علم فقد كذب .
و كذلك قوله : لا أقول إن أحداً أفضل منه ـ لا يقتضي تفضيله هو ، وإنما هو في الظاهر كف عن التفضيل .
الوجه الثاني : أنه قاله صلى الله عليه و سلم على طريق التواضع ، ونفى التكبر والعجب ، وهذا لا يسلم من الإعتراض .
الوجه الثالث : ألا يفضل بينهم تفضيلاً يؤدي إلى تنقص بعضهم ، أو الغض منه ،
لا سيما في جهة يونس عليه السلام ، إذ أخبر الله عنه بما أخبر لئلا يقع في
نفس من لا يعلم منه بذلك غضاضة وانحطاط من رتبته الرفيعة ، إذ قال تعالى
عنه : إذ أبق إلى الفلك المشحون . إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ـ
فربما يخيل لمن لا علم عنده حطيطته ، بذلك .
الوجه الرابع : منع التفضيل في حق النبوة و الرسالة ، فإن الأنبياء فيها
على حد واحد ، إذ هي شيء واحد لا يتفاضل ، و إنما التفاضل في زيادة الأحوال
و الخصوص ، و الكرامات ، و
الرتب ، و الألطاف ، و أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، و إنما التفاضل
بأمور أخر زائدة عليها ، و لذلك منهم رسل ، و منهم أولو عزم من الرسل ، و
منهم من رفع مكاناً علياً ، و منهم من أوتي الحكم صبياً ، و أوتي بعضهم
الزبر ، وبعضهم البينات ، ومنهم من كلم الله ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ،
قال الله تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا [ سورة
الإسراء / 17 ، الآية : 55 ] .
و قال : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 253 ] .
قال بعض أهل العلم : و التفضيل المراد لهم هنا في الدنيا ، و ذلك بثلاثة أحوال :
أن تكون آياته ومعجزاته أبهر ، و أشهر ، أو تكون أمته أزكى و أكثر ، أو
يكون في ذاته أفضل و أطهر ، و فضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله به من
كرامته ، و اختصاصه من كلام أو خلة او رؤية أو ما شاء الله من ألطافه ، و
تحف ولايته و اختصاصه .
و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن للنبوة أثقالاً ، و إن ي
ونس تفسخ منها تفسخ الربع فحفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم موضع الفتنة ،
من أوهام من يسبق إليه بسببها حرج في نبوته ، أو قدح في اصطفائه ، و حط عن
رتبته ، و وهن في عصمته ، شفقة منه صلى الله عليه و سلم على أمته .
وقد يتوجه على هذا الترتيب ، وجه [ 78 ] خامس ، و هو أن يكون [ أنا ]
راجعاً إلى القائل نفسه ، أي لا يظن أحد ـ و إن بلغ من الذكاء و العصمة و
الطهارة ، ما بلغ ـ أنه خير من يونس ، لأجل ما حكى الله عنه ، فإن درجة
النبوة أفضل وأعلى ، وإن تلك الأقدار لم تحطه ، عنها حبة خردل و لا أدنى .
و سنزيد في القسم الثالث في هذا بياناً إن شاء الله تعالى .
فقد بان لك الغرض ، وسقط بما حررناه شبهة المعترض ، [ و بالله التوفيق ، و هو المستعان لا إله إلا هو ] .
فصل
في أسمائه : صلى الله عليه و سلم و ما تضمنته من فضيلته
حدثنا أبو عمران موسى بن أبي تليد الفقيه ، قال : حدثنا أبو عمر الحافظ ،
حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا يحيى
، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لي خمسة أسماء : أنا محمد ، و أنا
أحمد ، و أنا الماحي ، الذي يمحو الله بي الكفر ،
و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، و أنا العاقب .
و قد سماه الله تعالى في كتابه محمداً ، وأحمد .
فمن خصائصه تعالى له أن ضمن أسماءه ثناءه ، وطوى أثناء ذكره عظيم شكره .
فأما اسمه أحمد فأفعل مبالغةً من صفة الحمد .
ومحمد : مفعل ، مبالغة من كثرة الحمد ، فهو ـ صلى الله عليه و سلم ـ أجل من
حمد ، و أفضل من حمد ، و أكثر الناس حمداً ، فهو أحمد المحمودين ، و أحمد
الحامدين ، و معه لواء الحمد يوم القيامة ليتم له كمال الحمد ، ويتشهر في
تلك العرصات بصفة الحمد ، ويبعثه ربه هناك مقاماً محموداً كما وعده ، يحمده
فيه الأولون والآخرون بشفاعته لهم ، ويفتح عليه فيه من المحامد ـ كما قال
صلى الله عليه و سل م ـ ما لم يعط غيره ، وسمى أمته في كتب أنبيائه
بالحمادين ، فحقيق أن يسمى محمداً وأحمد .
ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصه ، وبدائع آياته ـ فن آخر ، و هو أن الله جل اسمه حمى أن يسمى بهما أحد قبل زمانه .
أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع الله تعالى بحكمته أن
يسمى به أحد غيره ، ولا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب
أو شك .
و كذلك محمد أيضاً لم يسم به أحد من العرب و لاغيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده
صلى الله عليه و سلم و ميلاده أن نبياً يبعث اسمه محمد ، فسمى قوم قليل من
العرب أبناءهم بذلك ، رجاء أن يكون أحدهم هو . و الله أعلم حيث يجمل
رسالاته ، وهم : محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي ، و محمد بن مسلمة
الأنصاري ، و محمد بن براء البكري ، و محمد بن سفيان بن مجاشع ، و محمد بن
حمران الجعفي ، و محمد بن خراعي السلمي ، لا سابع لهم .
ويقال : أول من تسمى بمحمد محمد بن سفيان . واليمن تقول : بل محمد بن اليحمد من الأزد .
ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له ، او يظهر عليه
سبب يشك أحداً في أمره حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه و سلم ، ولم
ينازع فيهما .
وأما قوله صلى الله عليه و سلم : و أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر
ففسر في الحديث : و يكون محو الكفر إما من مكة و بلاد العرب ، و ما زوي له
من الأرض ، و وعد أنه يبلغه ملك أمته ، أو يكون المحو عاماً ، بمعنى الظهور
والغلبة ، كما [ 79 ] قال تعالى : ليظهره على الدين كله [ سورة التوبة / 9
، الآية : 33 ] .
[ و قد ورد تفسيره في الحديث أنه الذي محيت به سيئات من اتبعه ] .
و قوله : و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي أي على زماني و عهدي ، أي ليس بعدي نبي ، كما قال : و خاتم النبيين .
وسمي عاقباً ، لأنه عقب غيره من الأنبياء .
[ و في الصحيح : انا العاقب الذي ليس بعدي نبي ] .
و قيل : معنى على قدمي ، أي يحشر الناس بمشاهدتي ، كما قال تعالى : لتكونوا
شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة / 2 ، الآية :
143 ] .
[ و قيل على قدمي : على سابقتي ، قال الله تعالى : أن لهم قدم صدق عند ربهم [ سورة يونس / 10 ، الآية : 2 ] .
و قيل : على قدمي : أي قدامي ، وحولي ، أي يجتمعون إلي يوم القيامة .
و قيل على قدمي : على سنتي ] .
ومعنى قوله : لي خمسة أسماء : قيل : إنها موجودة في الكتب المتقدمة ، وعند أولى العلم من الأمم السالفة ، [ و الله أعلم ] .
و قد روي عنه صلى الله عليه و سلم : لي عشرة أسماء و ذكر منها : طه ، و يس ، حكاه مكي .
و قد قيل في بعض تفسير طه : إنه ياطاهر ياهادي . وفي يس : يا سيد ، حكاه السلمي عن الواسطي ، وجعفر بن محمد .
و ذكر غيره : لي عشرة أسماء فذكر الخمسة التي في الحديث الأول ، قال : و
أنا رسول الرحمة و رسول الراحة ، و رسول الملآحم ، وأنا المقتفي ، قفيت
النبيين .
و أنا قيم ، و القيم : الجامع الكامل ، كذا و جدته ، و لم أروه .
و أرى أن صوابه قثم ـ بالثاء كما ذكرناه بعد عن الحربي ، و هو أشبه بالتفسير .
و قد وقع أيضاً في كتب الأنبياء : قال داود عليه السلام : اللهم ابعث لنا محمد اًمقيم السنة بعد الفترة ، فقد يكون القيم بمعناه .
وروى النقاش عنه صلى الله عليه و سلم : لي في القرآن سبعة أسماء : محمد ، و أحمد و يس ، و طه ، و المدثر ، و المزمل ، و عبد الل .
[ و في حديث ـ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه : هي ست : محمد ، و أحمد ، و خاتم ، و عاقب ، و حاشر ، و ماح ] .
و في حديث أبي مو سى الأشعري ـ أنه كان صلى الله عليه و سلم يسمي لنا نفسه
أسماء ،فيقول : أنا محمد و أحمد ،و المقفي ، و نبي التوبة ، و نبي الملحمة ،
و نبي الرحمة .
و يروى : المرحمة ، و الراحة .
و كل صحيح إن شاء الله .
و معنى المقفي معنى القالب .
و أما نبي الرحمة و التوبة ، و المرحمة و الراحة ـ فقال تعال : وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين ، و كما و صفه بأنه يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة . و
يهديهم إلى صراط مستقيم . و بالمؤمنين رؤوف رحيم [ سورة التوبة /9 ، الآية
128 ] .
و قال في صفة أمته : أنها أمة مرحومة .
و قال الله تعالى فيهم : وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ، أي يرحم بعضهم
بعضاً ، فبعثه ربه تعالى رحمة لأمته و رحمة للعالمين ، و رحيماً بهم ، و
مرتحماً و مستغفراً لهم ، و جعل أمته مرحومة ، و وصقها بالرحمة .
و أمرها صلى الله عليه و سلم بالتراحم ، فقال و أثنى عليه فقال : إن الله يحب من عباده الرحماء .
و قال : الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء .
و أما رواية نبي الملحمة فإشارة إلى ما بعث به من القتال و السيف ـ صلى الله عليه و سلم ، و هي صحيح ة .
و روى حذيفة مثل حديث أبي موسى ، و نبي الرحمة ، و نبي الملاحم .
و رو ي الحربي في حديثه صلى الله عليه و سلم أنه قال : أتاني ملك فقال لي :
أنت قثم أي مجتمع . قال : و القثم : الجامع للخير ، و هذا اسم هو في أهل
بيته معلوم .
و قد جاءت من ألقابة ـ صلى الله عليه و سلم و سماته في القرآن عدة كثيرة
سوى ما ذكرناه ، كالنور ، و السراج المنير ، و المنذرو النذير ، و المبشر و
البشير ، و الشاهد ،و الشهيد ، و الحق المبين ، و خاتم النبيين ،و الرؤوف
الرحيم ، و الأمين ، و قدم الصدق [80] ، و رحمة للعالمين ،و نعمة الله و
العروة الوثقى ، و الصراط المستقيم ، و النجم الثاقب و الكريم ، و النبي
الأمي ، و داعي الله ـ في أوصاف كثيرة ، و سمات جليلة .
و جرى منها في كتب الله المتقدمة ، و كتب أنبيائه ، و أحاديث رسوله ، و
إطلاق الأمة جملة شافية ، كتسميته بالمصطفى ، و المجتبى ، و أبي القاسم ، و
الحبيب ،و رسول رب العالمين، و الشفيع المشفع ، و المتقي ، و المصلح ، و
الطاهر ، و المهين و الصادق ، و المصدوق ، و الهادي ، و سيد و لد آدم ، و
سيد المرسلين ، و إمام المتقين ،و قائدالغر المحجلين ، و حبيب الله ،و خلي ل
الرحمن ،و صاحب الحوض المورود ، و الشفاعة ،و المقام المحمود ، و صاحب
الوسيلة و الفضيلة و الدرجة الرفيعة ، و صاحب التاج ، و المعراج ، و اللواء
، و القضيب ، و راكب البراق ، و الناقة ، و النجيب ، و صاحب الحجة و
السلطان ، و الخاتم ، و العلامة و البرهان ، و صاحب الهراوة و النعلين .
و من أسمائه في الكتب : المتوكل ، و المختار ، و مقيم السنة ، و المقدس . [
وروح القدس ] ، و روح الحق ، و هو معنى البارقليط في الإنجيل .
و قال ثعلب : البارقليط : الذي يفرق بين الحق و الباطل .
و من أسمائه في الكتب السالفة ، ماذ ماذ ، و معناه طيب ، طيب ، و حمطايا ،و الخاتم ، و الحاتم ، حكاه الأحبار .
قال ثعلب : فالخاتم الذي ختم [ الله به ] الأنبياء . و الحاتم : أحسن الأنبياء خلقاً و خلقاً .
و يسمى بالسريانية : مشفع و المنحمنا ، و اسمه في التوراة أحيد ـ روي ذلك عن ابن سيرين .
و معنى صاحب القضيب ، أي السيف ، و قع ذلك مفسراً في الإنجيل ، قال : معه قضيب من حديد يقاتل به ، و أمته كذلك .
و قد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذي كان يمسكه صلى الله عليه و سلم ، و هو الآن عند الخلفاء .
و أما الهراوة التي وصف بها فه ي في اللغة العصا ، و أراها ـ و الله أعلم ـ
العصا المذكورة في حديث الحوض : أذود الناس عنه بعصايـى ـ لأهل اليمن .
و أما التاج فالمراد به العمامة ، و لم تكن حينئذ إلا للعرب ، و العمائم تيجان العرب .
و أوصافه و ألقابه ، و سماته في الكتب كثيرة ، و فيها ذكرناه منها مقنع إن شاء الله .
[و كانت كنيهة المشهورة أبا القاسم .
و روي عن أنس أنه لما ولد إبراهيم جاءه جبريل فقال له : السلام عليك يا أبا إبراهيم ] .
فصل
في أسمائه : صلى الله عليه و سلم و ما تضمنته من فضيلته
حدثنا أبو عمران موسى بن أبي تليد الفقيه ، قال : حدثنا أبو عمر الحافظ ،
حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا يحيى
، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لي خمسة أسماء : أنا محمد ، و أنا
أحمد ، و أنا الماحي ، الذي يمحو الله بي الكفر ،
و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، و أنا العاقب .
و قد سماه الله تعالى في كتابه محمداً ، وأحمد .
فمن خصائصه تعالى له أن ضمن أسماءه ثناءه ، وطوى أثناء ذكره عظيم شكره .
فأما اسمه أحمد فأفعل مبالغةً من صفة الحمد .
ومحمد : مفعل ، مبالغة من كثرة الحمد ، فهو ـ صلى الله عليه و سلم ـ أجل من
حمد ، و أفضل من حمد ، و أكثر الناس حمداً ، فهو أحمد المحمودين ، و أحمد
الحامدين ، و معه لواء الحمد يوم القيامة ليتم له كمال الحمد ، ويتشهر في
تلك العرصات بصفة الحمد ، ويبعثه ربه هناك مقاماً محموداً كما وعده ، يحمده
فيه الأولون والآخرون بشفاعته لهم ، ويفتح عليه فيه من المحامد ـ كما قال
صلى الله عليه و سل م ـ ما لم يعط غيره ، وسمى أمته في كتب أنبيائه
بالحمادين ، فحقيق أن يسمى محمداً وأحمد .
ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصه ، وبدائع آياته ـ فن آخر ، و هو ان الله جل اسمه حمى أن يسمى بهما أحد قبل زمانه .
أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع الله تعالى بحكمته أن
يسمى به أحد غيره ، ولا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب
أو شك .
و كذلك محمد أيضاً لم يسم به أحد من العرب و لاغيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده
صلى الله عليه و سلم وميلاده أن نبياً يبعث اسمه محمد ، فسمى قوم قليل من
العرب أبناءهم بذلك ، رجاء أن يكون أحدهم هو . و الله أعلم حيث يجمل
رسالاته ، وهم : محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي ، و محمد بن مسلمة
الأنصاري ، و محمد بن براء البكري ، و محمد بن سفيان بن مجاشع ، و محمد بن
حمران الجعفي ، و محمد بن خراعي السلمي ، لا سابع لهم .
ويقال : أول من تسمى بمحمد محمد بن سفيان . واليمن تقول : بل محمد بن اليحمد من الأزد .
ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له ، او يظهر عليه
سبب يشك أحداً في أمره حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه و سلم ، ولم
ينازع فيهما .
وأما قوله صلى الله عليه و سلم : و أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر
ففسر في الحديث : و يكون محو الكفر إما من مكة و بلاد العرب ، و ما زوي له
من الأرض ، و وعد أنه يبلغه ملك أمته ، أو يكون المحو عاماً ، بمعنى الظهور
والغلبة ، كما [ 79 ] قال تعالى : ليظهره على الدين كله [ سورة التوبة / 9
، الآية : 33 ] .
[ و قد ورد تفسيره في الحديث أنه الذي محيت به سيئات من اتبعه ] .
و قوله : و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي اي على زماني و عهدي ، أي ليس بعدي نبي ، كما قال : و خاتم النبيين .
وسمي عاقباً ، لأنه عقب غيره من الأنبياء .
[ و في الصحيح : انا العاقب الذي ليس بعدي نبي ] .
و قيل : معنى على قدمي ، أي يحشر الناس بمشاهدتي ، كما قال تعالى : لتكونوا
شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة / 2 ، الآية :
143 ] .
[ و قيل : على قدمي : على سابقتي ، قال الله تعالى : أن لهم قدم صدق عند ربهم [ يونس / 10 ، الآية : 2 ] .
و قيل : على قدمي : أي قدامي ، وحولي ، أي يجتمعون إلي يوم القيامة .
و قيل على قدمي : على سنتي ] .
ومعنى قوله : لي خمسة أسماء : قيل : إنها موجودة في الكتب المتقدمة ، وعند أولى العلم من الأمم السالفة ، [ و الله أعلم ] .
و قد روي عنه صلى الله عليه و سلم : لي عشرة أسماء و ذكر منها : طه ، و يس ، حكاه محكي .
و قد قيل في بعض تفسير طه : إنه ياطاهر ياهادي . وفي يس : يا سيد ، حكته السلمي عن الواسطي ، وجعفر بن محمد .
و ذكر غيره : لي عشرة أسماء فذكر الخمسة التي في الحديث الأول ، قال : و
أنا رسول الرحمة و رسول الراحة ، و رسول الملآحم ، وأنا المقتفي ، قفيت
النبيين .
و أنا قيم ، و القيم : الجامع الكامل ، كذا و جدته ، و لم أروه .
و أرى أن صوابه قثم ـ بالثاء كما ذكرناه بعد عن الحربي ، و هو أشبه بالتفسير .
و قد وقع أيضاً في كتب الأنبياء : قال داود عليه السلام : اللهم ابعث لنا محمد اًمقيم السنة بعد الفترة ، فقد يكون القيم بمعناه .
وروى النقاش عنه صلى الله عليه و سلم : لي في القرآن سبعة أسماء : محمد ، و أحمد و يس ، و طه ، و المدثر ، و المزمل ، و عبد الله .
[ و في حديث ـ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه : هي ست : محمد ، و أحمد ، و خاتم ، و عاقب ، و حاشر ، و مالح ] .
و في حديث أبي موسى الأشعري ـ أنه ك ان صلى الله عليه و سلم يسمي لنا نفسه
أسماء ،فيقول : أنا محمد و أحمد ،و المقفي ، و نبي التوبة ، و نبي الملحمة ،
و نبي الرحمة .
و كل صحيح إن شاء الله .
و معنى المقفي معنى القالب .
و أما نبي الرحمة و التوبة ، و المرحمة و الراحة ـ فقال تعال : وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين ، و كما و صفه بأنه يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة . و
يهديهم إلى صراط مستقيم . و بالمؤمنين رؤوف رحيم [ سورة التوبة /9 ، الآية
128 ] .
و قال في صفة أمته :أنها أمة مرحومة .
و قال الله تعاى فيهم : وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ، أي يرحم بعضهم
بعضاً ، فبعثه ربه تعالى رحمة لأمته و رحمة للعالمين ،و رحيماً بهم ، و
مرتحماً و مستغفراً لهم ، و جعل أمته مرحومة ، و وصقها بالرحمة .
و أمرها الله بالتراحم ، فقال و أثنى عليه فقال : إن الله يحب من عباده الرحماء
. و قال الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
و أما رواية نبي الملحمة فإشارة إلى عليه السلاما بعث به من القتال و السيف ـص ، و هي صحيحة .
و روى حذيفة مثل حيث أبي موسى ، و نبي الرحمة ، و نبي الملاحم .
و رو ي الحربي في حديثه صلى الله عليه و سلم أنه قال : أتاني ملك فقال لي :
أنت قثم أي مجتمع . قال : و القثم :الجامع للخير ، و هذا اسم هو في أهل
بيته معلوم .
و قد جاءت من ألقابة ـ صلى الله عليه و سلم و سماته في القرآن عدة كثيرة
سوى ما ذكرناه ، كالنور ، و السراج المنير ، و المنذرو النذير ، و المبشر و
البشير ، و الشاهد ،و الشهيد ، و الحق المبين ، و خاتم النبيين ،و الرؤوف
الرحيم ، و الأمين ، و قدم الصدق [80] ، و رحمة للعالمين ،و نعمة الله و
العروة الوثقى ، و الصراط المستقيم ، و النجم الثاقب و الكريم،و النبي
الأمي ،و الداعي الله ـ في أوصاف كثيرة ،و سمات جميلت .
و جرى منها في كتب الله المتقدمة ، و كتب أنبيائه ، و أحاديث رسوله ، و
إطلاق الأمة جملةشافية، كتسمية بالمصطفى ، و المجتبى ،و أبي القاسم ، و
الحبيب ،و رسول رب العالمين، و الشفيع المشفع ، و المتقي ،و المصلح ، و
الطاهر ، و المهين ن و الصادق ،و المصدوق ، و الهادي ن و سيد و لد آدم ، و
سيد المرسلين ، و إمام المتقين ،و قائدالغر المحجلين ، و حبيب الله ،و خليل
الرحمن ،و صاحب الحوض المورود ، و الشقاعة ،و المقام المحمود ، و صاحب
الوسيلة و الفضيلة و الدر جة الرفيعة ، و صاحب التاج ن و المعراج ، و
اللواء ، و القضيب ، و راكب البراق ، و الناقة ، و النجيب ، و صاحب الحجة و
السلطان ، و الخاتم ، و العلامة و البرهان ، و صاحب الهراوةو النعلين .
و من أسمائه في الكتب : المتوكل ، و المختار ، و مقيمالسنة ، و المقدس . [
وروح القدس ] ، وروح الحق ، و هو معنى البارقليط في الإنجيل .
و قال ثعلب : البارقليط : الذي يفرق بين الحق و الباطل .
و من أسمائه في الكتب السالفة ، ماذ ماذ ، و معناه طيب ، طيب ، و حمطايا ،و الحاتم ، و الحاتم ، حكاه الأحبار .
قال ثعلب : فالخاتم الذي ختم [= به ]الأنبياء . و الحاتم : أحسن الأنبياء خلقاً و خلقاً .
و يسمى بالسريانية : مشفع و المنحمنا ، و اسمه في التوراة أحيدـ روي ذلك عن
ابن سيرين . و معنى صاحب القضيب ، أي السيف ، و قع ذلك مفسراً في الإنجيل ،
قال : معه قضيب من حديد يقاتل به ، و أمته كذلك .
و قد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذي كان يمسكه صلى الله عليه و سلم ، و هو اللآن عند الخلفاء .
و أما الهراوة التي وصف بها فهي في اللغة العصا ، و أراها ـ و الله أعلم ـ
العصا المذكورة في حديث الحوض : أذود الناس عنه بعصايـى ـ لأهل اليمن .
و أما التاج فالمراد به العمامة ، و لم تكن حينئذ إلا للعرب ، و العمائ تيجان العرب .
و أوصافه و ألقابه ، و سماته في الكتب كثيرة ، و فيها ذكرناه منها مقنع إن شاء الله
[و كانت كنيتة المشهورة أبا القاسم .
وروي عن أنس أنه لما ولد إبراهيم جاءه جبريل فقال له : السلام عليك ياأبا إبراهيم ].
فصل
في تشريف الله تعالى له بما سماه من أسمائه الحسنى و وصفه به من صفاتة العلا
قال القاضي أبو الفضل وفقه الله تعالى : ما أحرى هذا الفصل بفصول الباب
الأول ، لانخراطه في سلك مضمونها ، و امتزاجه بعذب معينها ، لكن لم يشرح
الله الصدر للهداية إلى استنباطه ، و لا أنار الفكر لا ستخراج جوهره و
التقاطه إلا عند الخوض في الفصل الذي قبله ، فرأينا أن نضيفه إليه ، و نجمع
به شمله .
فاعلم أن الله تعالىخص كثيراً من الأنبياء بكرامة خلعها عليهم من أسمائه ،
كتسمية إسحاق ، و إسماعيل بعليم ، و حليم ، و إبراهيم بحليم ، و نوح بشكور ،
و عيسى و يحيى ببر موسى بكريم ، و قوى ، و يوسف بحفيظ عليم ، وأيوب بصابر ،
و إسماعيل بصادق الوعد ، كما [ 81 ] الكتاب العزيز من مواضع ذكرهم .
و فضل محمداً صلى الله عليه و سلم : بأن حلاه منها في كتابه العزيز ، و على
ألسنة أنبيائه بعدة كثيرة اجتمع لنا منها جملة بعد إعمال الفكر ، وإحضار
الذكر ، إذ لم نجد من جمع منها فوق اسمين ، و لا من تفرغ فيها لتأليف فصلين
.
و حررنا منها في هذا الفصل نحو ثلاثين اسماً ، و لعل الله تعالى ـ كما ألهم
إلى ما علم منها و حققه ـ يتم النعمة بإبانة ما لم يظهره لنا الآن ، ويفتح
غلقه .
فمن أسمائه تعالى : الحميد ، و معناه المحمود ، لأنه حمد نفسه ، و حمده عباده ، و يكون أيضاً بمعنى الحامد لنفسه و لأعمال الطاعات .
و سمى الله تعالى النبي صلى الله عليه و سلم محمداً ، و أحمد ، فمحمد بمعنى محمود ، و كذا وقع اسمه في زبور داود .
و أحمد بمعنى أكبر من حمد ، و أجل من حمد ، و أشار إلى نحو هذا حسان بقوله :
و شق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود و هذا محمد
و من أسمائه : الرؤوف الرحيم ، و هما بمعنى متقارب .
و قد سماه في كتابه بذلك ، فقال : بالمؤمنين رؤوف رحيم .
و من أسمائه تعالى الحق المبين . و معنى الحق : الموجود ، و المتحقق أمره ، و كذلك المبين ، أي البين أمره و إلهيته .
بان ، و أبان بمعنى واحد . و يكون بمعنى المبين لعباده أمر دينهم و معادهم .
و سمى النبي ـ صلى الله عليه و سلم بذلك في كتابه ، فقال : حتى جاءهم الحق ورسول مبين [ س

descriptionكتاب الشفاء .. كامل Emptyرد: كتاب الشفاء .. كامل

more_horiz
و قيل : المفضل . و قيل العفو و قيل : العلي .
و في الحديث المروي في أسمائه تعالى : الأكرم .
وسماه تعالى كريماً بق وله : إنه لقول رسول كريم ، قيل : محمد . و قيل : جبريل .
و قال صلى الله عليه و سلم : أنا أكرم ولد آدم .
و معاني الاسم صحيحة في حقه صلى الله عليه و سلم .
و من أسمائه تعالى : العظيم ، و معناه الجليل الشأن ، الذي كل شيء دونه .
و قال في النبي صلى الله عليه و سلم : وإنك لعلى خلق عظيم [ سورة القلم / 68 ، الآية : 4 ] .
و وقع في أول سفر من التوراة ـ عن إسماعيل : وستلد عظيماً لأمة [ 82 ] عظيمة ، فهو عظيم و على خلق عظيم .
و من أسمائه تعالى : الجبار ، و معناه المصلح ، و قيل القاهر . و قيل العلي العظيم الشأن . و قيل المتكبر .
وسمي النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب داود بجبار ، فقال : تقلد أيها الجبار سيفك ، فإن ناموسك و شرائعك مقرونة بهيبة يمينك .
و معناه في حق النبي صلى الله عليه و سلم : إما لإصلاحه الأمة بالهداية و
التعليم ، أو لقهره أعداءه ، أو لعلو منزلته على البشر ، و عظيم خطره .
و نفى عنه تعالى ـ في القرآن ـ جبرية التكبر التي لا تليق به ، فقال : وما أنت عليهم بجبار [ سورة ق /50 ، الآية : 45 ] .
و من أسمائه تعالى : الخبير ، و معناه المطلع بكنه الشيء ، العالم بحقيقته . و قيل معناه المخبر .
و قال الله تعالى : الرحمن فاسأل به خبيرا [ سورة الفرقان / 25 ، الآية : 59 ] .
و قال القاضي بكر بن العلاء : المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه و سلم . و المسؤول الخبير هو النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال غيره : بل السائل النبي صلى الله عليه و سلم . و المسؤول هو الله
تعالى ، فالنبي خبير بالوجهين المذكورين ، قيل : لأنه عالم على غاية من
العلم بما أعلمه الله من مكنون علمه ، و عظيم معرفته ، مخبر لأمته بما أذن
له في إعلامهم به .
و من أسمائه تعالى : الفتاح ، و معناه الحاكم بين عباده ، أو فاتح أبواب
الرزق و الرحمة ، و المنغلق من أمورهم عليهم ، أو يفتح قلوبهم و بصائرهم
لمعرفة الحق ، و يكون أيضاً بمعنى الناصر ، كقوله تعالى : إن تستفتحوا فقد
جاءكم الفتح ، أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، و قيل : معناه مبتدئ الفتح
و النصر .
و سمى الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بالفاتح في حديث الإسراء
الطويل من رواية الربيع ابن أنس ، عن أبي العالية و غيره ، عن أبي هريرة
رضي الله عنه ، و فيه : من قول الله تعالى : [ وجعلتك فاتحاً وخاتماً ] .
و فيه من قول النبي صلى الله عليه و سلم في ثنائه على ربه ، و تعديد مراتبه
: [ و رفع لي ذكري ، و جعلني فاتحاً و خاتماً ] ، فيكون الفاتح هنا بمعنى
الحاكم ، أو الفاتح لأبواب الرحمة على أمته ، أو الفاتح لبصائرهم لمعرفة
الحق و الإيمان بالله ، أو الناصر للحق ، أو المبتديء بهداية الأمة ، أو
المبدأ المقدم في الأنبياء و الخاتم لهم ، كما قال صلى الله عليه و سلم :
كنت أول الأنبياء في الخلق ، و آخرهم في البعث .
و من أسمائه تعالى في الحديث : الشكور ، و معناه المثيب على العمل القليل .
و قيل المثني على المطيعين ، و وصف بذلك نبيه نوحاً عليه السلام فقال :
إنه كان عبدا شكورا [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 3 ] .
و قد وصف النبي صلى الله عليه و سلم نفسه بذلك ، فقال : أفلا أكون عبداً
شكوراً أي معترفاً بنعيم ربي ، عارفاً بقدر ذلك ، مثنياً عليه ، مجهداً
نفسي في الزيادة من ذلك ، لقوله تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم [ سورة إبراهيم
/ 14 ، الآية : 7 ] .
و من أسمائه تعالى : العليم ، و العلام . و عالم الغيب و الشهادة .
و وصفه نبيه صلى الله عليه و سلم بالعلم ، و خصه بمزية منه ، فقال تعالى :
وع لمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ سورة النساء 4 ، الآية :
113 ] .
و قال : ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
و من أسمائه تعالى : الأول ، و الآخر ، و معناهما السابق [ 83 ] للأشياء قبل و جودها ، و الباقي بعد فنائها .
و تحقيقه أنه ليس له أول و لا آخر .
و قال صلى الله عليه و سلم : كنت أول الأنبياء في الخلق ، و آخرهم في البعث
. و فسر بهذا قوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ،
فقدم محمداً صلى الله عليه و سلم .
و قد أشار إلى نحو منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
و منه قوله : ىنحن الآخرون السابقون .
و قوله : أنا أول من تنشق عنه الأرض ، و أول من يدخل الجنة ، و أول شافع ، و
أول مشفع و هو خاتم النبيين ، و آخر الرسل صلى الله عليه و سلم .
و من أسمائه تعالى : القوي . و ذو القوة المتين ، و معناه : القادر .
و قد وصفه الله تعالى بذلك ، فقال : ذي قوة عند ذي العرش مكين ، قيل محمد . و قيل جبريل .
و من أسمائه تعالى : الصادق ، في الحديث المأثور .
و ورد في الحديث أيضاً اسمه صلى الله عليه و سلم بالصادق و المصد وق .
و من أسمائه تعالى : الولي ، و المولى ، و معناهما الناصر ، و قد قال الله
تعالى : إنما وليكم الله ورسوله [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 55 ] .
و قال صلى الله عليه و سلم : أنا ولي كل مؤمن .
و قال الله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 6 ] .
و قال صلى الله عليه و سلم : من كنت مولاه فعلي مولاه .
و من أسمائه تعالى : العفو ، و معناه الصفوح .
و قد وصف الله تعالى بهذا نبيه في القرآن ، و التوراة ، و أمره بالعفو ،
فقال تعالى : خذ العفو [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 199 ] .
و قال : فاعف عنهم واصفح [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 12 ] .
و قال له جبريل ـ و قد سأله عن قوله : خذ العفو ، قال : أن تعفو عمن ظلمك .
و قال في التوراة و الإنجيل في الحديث المشهور ، في صفته : ليس بفظ و لا غليظ ، و لكن يعفو و يصفح .
و من أسمائه تعالى : الهادي ، و هو بمعنى توفيق الله لمن أراد من عباده ، و
بمعنى الدلالة و الدعاء . قال الله تعالى : والله يدعو إلى دار السلام
ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . و أصل الجميع من الميل . و قيل : من ال
تقديم .
و قيل في تفسير طه إنه يا طاهر ، يا هادي ، يعني النبي صلى الله عليه و سلم
. و قال الله تعالى له : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ سورة الشورى / 42 ،
الآية : 52 ] .
و قال فيه : وداعيا إلى الله بإذنه [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 46 ] .
فالله تعالى مختص بالمعنى الأول ، قال تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ سورة القصص / 28 ، الآية : 56 ] .
و بمعنى الدلالة ينطلق على غيه تعالى .
و من أسمائه تعالى : المؤمن المهيمن ، قيل : هما بمعنى واحد ، فمعنى المؤمن
في حقه تعالى : المصدق وعده عباده ، و المصدق قوله الحق ، و المصدق لعباده
المؤمنين ورسله . و قيل : الموحد نفسه . و قيل : المؤمن عباده في الدنيامن
ظلمه ، و المؤمنين في الآخرة من عذابه .
و قيل : المهيمن بمعنى الأمين ، مصغر منه ، فقلبت الهمزة هاء .
و قد قيل : إن قولهم في الدعاء : آمين ـ إنه اسم من أسماء الله تعالى ، و معناه معنى المؤمن .
و قيل : المهيمن بمعنى الشاهد و الحافظ .
و النبي صلى الله عليه و سلم أمين ، و مهيمن ، و مؤمن ، و قد سماه الله
تعالى أميناً ، فقال : مطاع ثم أمين [ سورة الت كوير/ 81 ، الآية : 21 ] .
و كان ـ صلى الله عليه و سلم ـ يعرف بالأمين ، و شهر به قبل النبوة و بعدها ، و سماه العباس ، في شعره مهيمناً في قوله [ 84 ] :
ثم احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء تحتها النطق
قيل : المراد : يأيها المهيمن ، قاله القتيبي ، و الإمام أبو القاسم القشيري .
و قال تعالى : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ، أي يصدق .
و قال صلى الله عليه و سلم : أنا أمنة لأصحابي ، فهذا بمعنى المؤمن .
و من أسمائه تعالى : القدوس ، و معناه المنزه عن النقائص المطهر من سمات
الحدث ، و سمي بيت المقدس ، لأنه يتطهر فيه من الذنوب ، و منه ، الوادي
المقدس ، وروح القدس .
و وقع في كتب الأنبياء في أسمائه صلى الله عليه و سلم : المقدس ، أي المطهر
من الذنوب ، كما قال تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [
سورة الفتح / 48 ، الآية : 1 ] .
أو الذي يتطهر به من الذنوب ، و يتنزه باتباعه عنه ، كما قال : ويزكيهم .
و قال تعالى : ويخرجهم من الظلمات إلى النور [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 16 ] .
أو يكون مقدساً بمعنى مطهراً ، من الأخلاق الذميمة و الأوصاف ا لدنية .
و من أسمائه تعالى : العزيز ، و معناه : الممتنع الغالب ، أو الذي لا نظير
له ، أو المعز لغيره ، و قال تعالى : ولله العزة ولرسوله ، أي الامتناع و
جلالة القدر .
و قد وصف الله تعالى نفسه بالبشارة و النذارة ، فقال : يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 21 ] .
و قال : أن الله يبشرك بيحيى : و بكلمة منه [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 45 ] .
و سماه الله تعالى مبشراً، و نذيراً : أي مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته .
و من أسمائه تعالى فيما ذكره بعض المفسرين : طه ، و يس . و قد ذكر بعضهم
أيضاً أنهما من أسماء محمد صلى الله عليه و سلم و شرف و كرم .


فصل
في بيان أن الله تعالى لا يشبه شيئاً من مخلوقاته
قال القاضي أبو الفضل : وفقه الله ، و هأنا أذكرنكتةً أذيل بها هذا الفصل ،
و أختم بها هذا القسم ، و أزيح الإشكال بها فيما تقدم عن كل ضعيف الوهم ،
سقيم الفهم ، تخلصه من مهاوي التشبيه ، و تزحزحه عن شبه التمويه ، و هو أن
يعتقد أن الله تعالى جل اسمه في عظمته و كبريائه و ملكوته ، و حسنى أسمائه ،
و علي صفاته ، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ، و لا يشبه به ، و أن ما جاء
مما أطلقه الشرع على الخالق و على المخلوق ، فلا تشابه بينهما في المعنى
الحقيقي ، إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق ، فكما أن ذاته لا تشبه
الذوات كذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين ، إذ صفاتهم لا تنفك عن الأعراض و
الأغراض ، و هو تعالى ـ منزه عن ذلك ، بل لم يزل بصفاته و أسمائه ، و كفى
في هذا قوله : ليس كمثله شيء [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 11 ] .
و لله در من قال من العلماء العارفين المحققين : التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات و لا معطة عن الصفات .
و زاد هذه النكتة الواسطي ـ رحمه الله ـ بياناً ، و هي مقصودنا ، فقال :
ليس كذاته ذات ، و لا كأسمه اسم ، و لا كفعله فعل ، و لا كصفته صفة ، إلا
من جهة موافقة اللفظ اللفظ ، و جلت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة ،
كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة .
و هذا كله مذهب أهل الحق و السنة و الجماعة رضي الله عنهم .
و قد فسر الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله ـ قوله [ 85 ] هذا ، ليزيد
بياناً ، فقال : هذه الحكاية تشتمل على جوامع مسائل التوحيد ، و كيف تشبه
ذاته ذات المحدثات ، و هي بوجودها مستغنية ، و كيف يشبه فعله فعل الخلق ، و
هو لغير جلب أنس ، أو دفع نقص حصل ، و لا لخواطر و أغراض وجد ، و لا
بمباشرة و معالجة ظهر ، و فعل الخلق لا يخرج عن هذه الوجوه .
و قال آخر ـ من مشايخنا : ما توهمتموه بأوهامكم ، أو أدركتموه بعقولكم فهو محدث مثلكم .
و قال الإمام أبو المعالي الجويني : من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره ،
فهو مشبه ، و من اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل و إن قطع بموجود اعتراف
بالعجز عن درك حقيقته فهو موحد .
و ما أحسن قول ذي النون المصري : حقيقة التوحيد أن تعلم أن قدرة الله تعالى
في الأشياء بلا علاج ، وصنعه لها بلا مزاج ، وعلة كل شيء صنعه ، و لا علة
لصنعه ، و ما تصور في و همك فالله بخلاف ه .
و هذا كلام عجيب نفيس محقق ، و الفصل الآخر ، تفسير لقوله : ليس كمثله شيء [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 11 ] .
و الثاني، تفسير لقوله : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون و الثالث ، تفسير
لقوله : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ سورة النحل / 16
، الآية : 40 ] .
ثبتنا الله و إياك على التوحيد و الإثبات ، و التنزيه ، و جنبنا طرفي الضلالة و الغواية من التعطيل و التشبيه بمنه ورحمته .




الباب الرابع
فيما أظهره الله تعالى على يديه من المعجزات و شرفه به من الخصائص و الكرامات

قال القاضي أبو الفضل : حسب المتأمل أن يحقق أن كتابنا هذا لم نجمعه لمنكر
نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لا لطاعن في معجزاته ، فنحتاج إلى نصب
البراهين عليها ، وتحصين حوزتها ، حتى لا يتوصل المطاعن إليها ، و نذكر
شروط المعجز و التحدي و حده ، و فساد قول من أبطل نسخ الشرائع ، ورده ، بل
ألفناه لأهل ملته ، الملبين لدعوته ، المصدقين لنبوته ، ليكون تأكيداً في
محبتهم له ، و منماةً لأعمالهم ، و ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم .
و بنيتنا أن نثبت في هذا الباب أمهات معجزاته ، و مشاهير آياته ، لتدل ،
على عظيم قدره عند ربه . و أتينا منها بالمحقق و الصحيح الإسناد ، و أكثره
مما بلغ القطع ، أو كاد ، و أضفنا إليها بعض ما وقع في مشاهير كتب الأئمة .

و إذا تأمل المتأمل المنصف ما قدمناه من جميل أثره ، و حميد سيره ، و براعة
علمه ، ورجاحة عقله و حلمه ، و جملة كماله ، و جميع خصاله ، و شاهد حاله ،
و صواب مقاله ـ لم يمتر في صحة نبوته ، و صدق دعوته .
و قد كفى هذا غير واحد في إسلامه و الإيمان به .
فروينا عن الترمذي ، و ابن قانع وغيرهما بأسانيدهم ـ أن عبد الله بن سلام ،
قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة جئته لأنظر إليه ،
فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب .
حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، قال : حدثنا أبو الحسين
الصيرفي ، و أبو الفضل بن خيرون ، عن أبي يعلى البغدادي ، عن أبي علي [ 86 ]
السنجي ، عن ابن محبوب ، عن الترمذي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد
الوهاب الثقفي ، و محمد بن جعفر ، و ابن أبي عدي ، و يحيى بن سعيد ، عن عوف
بن أبي جميلة الأعرابي ، عن زرارة ابن أوفى ، عن عبد الله بن سلام . . .
الحديث .
و عن أبي رمثة التيمي : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم ، و معي ابن لي ، فأريته ، فلما رأيته قلت : هذا نبي الله .
و روى مسلم و غيره أن ضماداً لما وفد عليه ، فقال له النبي صلى الله عليه و
سلم : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل
فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أن محمداً
عبده ورسوله قال له : أعد علي كلماتك هؤلاء ، فلقد بلغن قاموس البحر هات
يدك أبايعك .
و قال جامع بن شداد : كا ن رجل منا يقال له طارق ، فأخبر أنه رأى النبي صلى
الله عليه و سلم بالمدينة ، فقال : هل معكم شيء تبيعونه ؟ قلنا : هذا
البعير . قال : بكم ؟ قلنا : بكذا و كذا و سقاً من تمر ، فأخذ بخطامه ، و
سار إلى المدينة ، فقلنا : بعنا من رجل لا ندري من هو ، و معنا ظعينة ،
فقالت : أنا ضامنة لثمن البعير ، رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر لا
يخيس فيكم .
فأصبحنا ، فجاء رجل بتمر فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم
إليكم ، يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر ، و تكتالوا حتى تستوفوا . ففعلنا .

و في خبر الجلندى ملك عمان ـ لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
يدعوه إلى الإسلام ـ قال الجلندى : و الله ، لقد دلني على هذا النبي الأمي
أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ، و لا ينهي عن شيء إلا كان أول تارك
له ، و أنه يغلب فلا يبطر و يغلب فلا يضجر ، و يفي بالعهد ، و ينجر الموعود
، و أشهد أنه نبي .
و قال نفطويه ـ في قوله تعالى : يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار : هذا
مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم ، يقول : يكاد منظره يدل
على نبوته و إن لم يتل قرآناً كما قال ابن رواح ة :
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
و قد آن أن نأخذ في ذكر النبوة و الوحي و الرسالة ، و بعده في معجزة القرآن ، و ما فيه من برهان و دلالة .
فصل
في أن الله قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده
اعلم أن الله جل اسمه قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده ، و العلم بذاته و
أسمائه و صفاته و جميع تكليفاته ابتداء دون واسطة لو شاء ، كما حكي عن
سنته في بعض الأنبياء ، و ذكره بعض أهل التفسير في قوله : وما كان لبشر أن
يكلمه الله إلا وحيا [ سورة الشورى / 42 ، الآية : 51 ] .
و جائز أن يوصل إليهم جميع ذلك بواسطة تبلغهم كلامه ، و تكون تلك الواسطة ،
إما من غير البشر ، كالملائكة مع الأنبياء أو من جنسهم ، كالأنبياء مع
الأمم ، و لا مانع لهذا من دليل العقل .
و إذا جاز هذا و لم يستحل ، و جاءت الرسل بما دل على صدقهم من معجزاته وجب
تصديقهم في جميع ما أتوا به ، لأن المعجزة مع التحدي من النبي صلى الله
عليه و سلم قائم مقام قول الله : صدق عبدي فأطيعوه و اتبعوه ، و شاهد على
صدقه فيما يقوله ، و هذا كاف .
و التطويل فيه خارج عن العرض [ 87 ] ، فمن أراد تتبعه وجده مستوفي في مصنفات أئمتنا رحمهم الله .
فالنبوة في لغة من همز مأخوذة من النبأ ، و هو الخبر ، و قد لا تهمز على هذا التأويل تسهيلاً
.
و المعنى أن الله تعالى أطلعه على غيبه ، و أعلمه أنه نب يه ، فيكون نبي
منبأ فعيل بمعنى مفعول ، أو يكون مخبراً عما بعثه الله تعالى به ، و منبئاً
بما أطلعه الله عليه فعيل بمعنى فاعل ، و يكون عند من لم يهمزه من النبوة ،
و هو ما ارتفع من الأرض ، و معناه أن له رتبة شريفة ، و مكانة نبيهة عند
مولاه منيفة ، فالوصفان في حقه مؤتلفان .
و أما الرسول فهو المرسل ، و لم يأت فعول بمعنى مفعل في اللغة إلا نادراً .
و إرساله أمر الله بالإبلاغ إلى من أرسله إليه ، و اشتقاقه من التتابع ، و
منه قولهم : جاء الناس أرسالاً ، إذا اتبع بعضهم بعضاً ، فكأنه ألزم تكرير
التبليغ ، أو ألزمت الأمة اتباعه .
و اختلف العلماء : هل النبي و الرسول بمعنى ، أو بمعنيين ؟ فقيل : هما سواء
، و أصله من الإنباء و هو الإعلام ، و استدلوا بقوله تعالى : وما أرسلنا
من قبلك من رسول ولا نبي ، فقد أثبت لهما معاً الإرسال ، قال : و لا يكون
النبي إلا رسولاً ، و لا الرسول إلا نبياً .
و قيل : هما مفترقان من وجه ، إذ قد اجتمعا في النبوة التي هي الاطلاع على
الغيب و الإعلام بخواص النبوة أو الرفعة لمعرفة ذلك ، و حوز درجتها ، و
افترقا في زيادة الرسالة للرسول ، و هو الأمر بالإنذار و الإعلام كما قل نا
.
و حجتهم من الآية نفسها التفريق بين الإسمين ، و لو كانا شيئاً واحداً لما
حسن تكرارهما في الكلام البليغ ، قالوا : و المعنى : ما أرسلنا من رسول إلى
أمة أو نبي ليس بمرسل إلى أحد .
و قد ذهب بعضهم إلى أن الرسول من جاء بشرع مبتدإ ، و من لم يأت به نبي غير رسول ، و إن أمر بالإبلاغ و الإنذار .
و الصحيح ، و الذي عليه الجماء الغفير ، أن كل رسول نبي ، و ليس كل نبي رسولاً .
و أول الرسل آدم ، و آخرهم محمد صلى الله عليه و سلم .
و في حديث أبي ذر رضي الله عنه : إن الأنبياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألف نبي .
و ذكر أن الرسل ، منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر ، أولهم آدم عليه السلام .
فقد بان لك معنى النبوة و الرسالة ، و ليستا عند المحققين ذاتاً للنبي ، و
لا وصف ذات ، خلافاً للكرامية ، و في تطويل لهم ، و تهويل ، ليس عليه تعويل
.
و أما الوحي فأصله الإسراع ، فلما كان النبي يتلقى ما يأتيه من ربه بعجل
سمي وحياً ، و سميت أنواع الإلهامات وحياً ، تشبيهاً بالوحي إلى النبي ، و
سمي الخط وحياً ، لسرعة حركة يد كاتبه ، و وحي الحاجب و اللحظ سرعة
إشارتهما و منه قوله تعالى : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ، أي أومأ و
رمز . و قيل : كتب ، و منه قولهم : الوحا ، الوحا ، أي السرعة .
و قيل أصل الوحي السر و لإخفاء ، و منه سمي الإلهام وحياً ، و منه : وإن
الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ، أي يوسوسون في صدروهم ، و منه قوله :
وأوحينا إلى أم موسى ، أي ألقي في قلبها .
و قد قيل ذلك في قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [ 88 ] ، أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة .
فصل
في معنى تسمية من جاءت به الأنبياء معجزة
اعلم أن تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة ، هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان
بمثلها ، و هي على ضربين : ضرب هو من نوع قدره البشر ، فعجزوا عنه ،
فتعجيزهم عنه فعل لله دل على صدق نبيه ، كصرفهم عن تمني الموت . و تعجيزهم
عن الإتيان بمثل القرآن على رأي بعضهم ، و نحوه .
و ضرب هو خارج عن قدرته ، فلم يقدروا على الإتيان بمثله ، كإحياء الموتى ، و
قلب العصا حية ، و إخراج ناقة من صخرة ،و كلام شجرة ، و نبع الماء من
الأصابع ، و انشقاق القمر ، مما لا يمكن أن يفعله أحد ، إلا الله ، فكون
ذلك على يد النبي صلى الله عليه و سلم من فعل الله تعالى و تحديه من يكذبه
أن يأتي بمثله تعجيز له .
و اعلم أن المعجزات التي ظهرت على يد نبينا صلى الله عليه و سلم دلا ئل
نبوته و براهين صدقه ـ من هذين النوعين معاً ـ و هو أكثر الرسل معجرةً ، و
أبهرهم آيةً، و أظهرهم برهاناً ، كما سنبينه ، و هي ـ في كثرتها ـ لا يحيط
بها ضبط ، فإن واحداً منها ـ و هو القرآن ـ لا يحصى عدد معجزاته بألف و لا
ألفين ، و لا أكثر ، لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد تحدى بسورة منه فعجز
عنها .
قال أهل العلم : إنا أعطيناك الكوثر . فكل آية أو آيات منه بعددها و قدرها
معجزة ، ثم فيها نفسها معجزات على ما سنفصله فيما انطوى عليه من المعجزات .

ثم معجزاته صلى الله عليه و سلم على قسمين : قسم منها علم قطعاً ، و نقل
إلينا متواتراً كالقرآن ، فلا مرية ، و لا خلاف ، بمجيء النبي به ، و ظهوره
من قبله ، و استدلاله بحجته ، و إن أنكر هذا معاند جاحد ، فهو كإنكاره
وجود محمد صلى الله عليه و سلم في الدنيا .
و إنما جاء اعتراض الجاحدين في الحجة به ، فهو في نفسه و جميع ما تضمنه من معجز معلوم ضرورة .
و وجه إعجازه معلوم ضرورةً و نظراً ، كما سنشرحه .
قال بعض أئمتنا : و يجري هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه صلى
الله عليه و سلم آيات و خوارق عادات إن لم يبلغ واحد منها معيناً القطع
فيبلغه جميعها ، فلا مرية في جريان معانيها على يديه ، و لا يختلف مؤمن و
لا كافر ـ أنه جرت على يديه عجائب ، و إنما خلاف المعاند في كونها من قبل
الله .
و قد قدمنا كونها من قبل الله ، و أن ذلك بمثابة قوله : صدقت .
فقد علم وقوع مثل هذا أيضاً من نبينا ضرورةً لاتفاق معانيها ، كما يعلم
ضرورة جود حاتم ، و شجاعة عنترة ، و حلم أحنف ، لاتفاق الأخبار الواردة عن
كل واحد منهم على كرم هذا، و شجاعة هذا ، و حلم هذا ، و إن كان كل خبر
بنفسه لا يوجب العلم ، و لا يقطع بصحته .
و القسم الثاني ما لم يبلغ مبلغ الضرورة و القطع ، و هو على نوعين : نوع
مشتهر منتشر ، رواه العدد ، و شاع الخبر به عند المحدثين و الرواة و نقلة
السير و الأخبار ، كنبع الماء من بين الأصابع ، و تكثير الطعام .
و نوع منه اختص به الواحد و الإثنان ، و رواه العدد اليسير ، و لم يشتهر
اشتهار غيره ، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى ، و اجتمعا على
الإتيان بالمعجز ، كما قدمناه .
قال القاضي أبو الفضل [ 89 ] : و أنا أقول صدعاً بالحق : إن كثيراً من هذه لآيات المأثورة عنه صلى الله عليه و سلم معلومة بالقطع :
أما انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه ، و أخبرعن و جوده ، و لا يعدل عن ظاهر
إلا بدليل ، و جاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة ، و لا يوهن
عزمنا خلاف أخرق منحل عرى الدين ، و لا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك
على قلوب ضعفاء المؤمنين ، بل نرغم بهذا أنفه ، و ننبذ بالعراء سخفه .
و كذلك قصة نبع الماء ، و تكثير الطعام ـ رواها الثقات و العدد الكثير عن ا لجماء الغفير ، عن العدد الكثير من الصحابة .
و منها ما رواه الكافة عن الكافة متصلاً عمن حدث با من جملة الصحابة و
إخبارهم أن ذلك كان في موطن اجتماع الكثير منهم في يوم الخندق ، و في غزوة
بواط ، و عمرة الحديبية ، و غزوة تبوك ، و أمثالها من محافل المسلمين و
مجمع العساكر ، و لم يؤثر عن أحد من الصحابة مخالفة للراوي فيما حكاه ، و
لا إنكار لما ذكر عنهم أنهم رأوه كما رآه ، فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق ،
إذ هم المنزهون عن السكوت على باطل ، و المداهنة في كذب ، و ليس هناك رغبة
و لا رهبةتمنعهم ، ولو كان ما سمعوه منكراً عندهم و غير معروف لديهم
لأنكره ، كما أنكر بعضهم على بعض أشياء رواها من السنن و السير و حروف
القرآن . و خطأ بعضهم بعضاً ، و وهمه في ذلك ، مما هو معلوم ، فهذا النوع
كله يلحق بالقطعي من معجزاته لما بيناه .
و أيضاً فإن أمثال الأخبار التي لا أصل لها ، و بنيت على باطل ، لا بد بعد
مرور الأزمان و تداول الناس و أهل البحث من انكشاف ضعفها ، و خمول ذكرها ،
كما يشاهد في كثير من الأخبار الكاذبة ، و الأراجيف الطارئة . و أعلام
نبينا هذه الواردة من طريق الأحاد لا تزداد مع مرور الزمان إلا ظهوراً ، و
مع تداول الفرق ، و كثرة طعن العدو ، و حرصه على توهينها ، و تضعيف أصلها ،
و اجتهاد الملحد على إطفاء نورها إلا قوة و قبولاً ، و للطاعنين عليها إلا
حسرة و غليلاً .
و كذلك إخباره عن الغيوب ، و إنباؤه بما يكون و كان معلوم من آياته على الجملة بالضرورة .
و هذا حق لا غطاء عليه ، و قد قال به من أئمتنا القاضي ، و الأستاذ أبو بكر
و غيرهما ، رحمهم الله ، و ما عندي أوجب قول القائل : إن هذه القصص
المشهورة من باب خبر الواحد إلا قلة مطالعته للأخبار و روايتها ، و شغله
بغير ذلك من المعارف ، و إلا فمن اعتنى بطرق النقل ، و طالع الأحاديث و
السير لم يرتب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه .
و لا يبعد أن يحصل العلم يالتواتر عند واحد و لا يحصل عند آخر ، فإن أكثر
الناس يعلمون ـ بالخبر ـ كون بغداد موجودة ً ، و أنها مدينة عظيمة ، و دار
الإمامة و الخلافة ، و آحاد من الناس لا يعلمون اسمها ، فضلاً عن وصفها ، و
هكذا يعلم الفقهاء من أصحاب مالك بالضرورة و تواتر النقل عنه ـ أن مذهبه
إيجاب قراءة [ 90 ] أم القرآن في الصلاة للمنفرد و الإمام ، وإجزاء النية
في أول ليلة من رمضان عما سواه ، و أن الشافعي يرى ت جديد النية كل ليلة ، و
الاقتصار في المسح على بعض الرأس ، و أن مذهبهما القصاص في القتل بالمحدد و
غيره ، و إيجاب النية في الوضوء ، واشتراط الولي في النكاح ، و أن أبا
حنيفة يخالفهما في هذه المسائل ، وغيرهم ممن لم يشتغل بمذاهبهم و لا روى
أقوالهم لا يعرف هذا من مذاهبهم فضلاً عمن سواه .
و عند ذكرنا آحاد هذه المعجزات نزيد الكلام فيها بياناً إن شاء الله تعالى .

فصل
في إعجاز القرآن ـ الوجه الأول
[ قال القاضي أبو الفضل رحمه الله ]
اعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة ، و تحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه :
أولها : حسن تأليفة ، و التئام كلمه ، و فصاحته ، و وجوه إيجازه ، و بلاغته
الخارقة عادة العرب ، و ذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن ، و فرسان الكلام ،
قد خصوا من البلاغة و الحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم ، و أوتوا من
ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان ، و من فضل الخطاب ما يقيد الألباب جعل الله
لهم ذلك طبعاً و خلقة ، و فيهم غريزة و قوة ، يأتون منه على البديهة بالعجب
، و يدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديهاً في المقامات ، و
شديد الخطب ، و يرتجزون به بين الطعن و الضرب ، و يمدحون و يقدحون ، و
يتوسلون و يتوصلون ، و يرفعون و يضعون ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال ، و
يطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، و يذللون الصعاب ،
و يذهبون الإحن ، و يهيجون الدمن ، و يجرئون الجبان ، و يبسطون يد الجعد
البنان ، و يصيرون الناقص كاملاً و يتركون النبيه خاملاً .
منهم البدوي ذو اللفظ الجزل ، و الق ول الفصل ، والكلام الفخم ، و الطبع الجوهري ، و المنزع القوي .
و منهم الحضري ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، و الكلمات الجامعة ،
و الطبع السهل ، و التصرف في القول القليل الكفلة ، الكثير الرونق ،
الرقيق الحاشية .
و كلا البابين لهما في البلاغة الحجة البالغة ، و القوة الدامغة ، و القدح
الفالج ،و المهيع الناهج ، ، لايشكون أن الكلام طوع مزادهم ، و البلاغةملك
قيادهم ، قد حووا فنونها واستنبطوا عيونها ، و دخلوا من كل باب من أبوابها ،
و علوا صرحاً لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير و المهين ، و تفننوا في
الغث و السمين ، و تقاولوا في القل و الكثر ، و تساجلوا في النظم و النثر ،
فما راعهم إلا رسول كريم ، بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا
من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، أحمكت آياته ، و فصلت كلماته ، و بهرت
بلاغته العقول ، و ظهرت فصاحته على كل مقول ، و تظافر إيجازه و إعجازه ، و
تظاهرت حقيقته و مجازه ، و تبارت في الحسن مطالعه و مقاطعه [ 91 ] ، و حوت
كل البيان جوامعه و بدائعه ، و اعتدل مع إيجازه حسن نظمه ، و انطبق على
كثرة فوائده مختار لفظه ، وهم أفسح ما كانوا في الباب مجالاً ، و أشهر في
الخطابة رجالاً ، و أكثر في السجع و الشعر سجالاً ، و أوسع في الغريب و
اللغة مقالاً ، بلغتهم التي بها يتحاورون ، و منازعهم التي عنها يتناضلون ،
صارخاً بهم في كل حين ، و مقرعاً لهم بضعاً و عشرين عاماً على رؤوس الملأ
أجمعين : أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون
الله إن كنتم صادقين [ سورة يونس / 10 ، الآية : 38 ] .
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم
من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا . [ سورة البقرة / 2
، الآية : 23 ، 24 ] .
و قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ سورة الإسراء / 17 ، الآية : 88 ] .
و قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات . و ذلك أن المفتري أسهل و وضع الباطل و
المختلق على الاختيار أقرب ، و اللفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب ، و
لهذا قيل : فلان يكتب كما يقال له ، و فلا يكتب كما يريد .
و للأول على الثاني فضل ، و بينهما شأو بعيد .
فلم يزل يقرعهم صلى الله عليه و سلم أشد التقريع ، و يوبخهم غاية التوبيخ ،
و يسفه أحلامهم ، و يحط أعلامهم ، و يشتت نظامهم ، و يذم آلهتهم و آباءهم ،
و يستبيح إرضهم و ديارهم و أموالهم ، و هم في كل هذا ناكصون عن معارضتيه ،
محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتشغيب و التكذيب ، و الإغراء
بالإفتراء ، و قولهم : إن هذا إلا سحر يؤثر ، و سحر مستمر ، و إفك افتراه ،
و أساطير الأولين ، و المباهتة و الرضا بالدنية ، كقولهم : قلوبنا غلف [
سورة البقرة / 2 ، الآية : ( 88 ) . و سورة النساء / 4 ، الآية : 155 ] .
و في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب .
و لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ سورة فصلت / 41 ، الآية : 26 ] .
و الادعاء مع العجز بقولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 31 ] .
و قد قال لهم الله : و لن تفعلوا ، فما فعلوا و لا قدروا . و من تعاطى ذلك
من سخفائهم ـ كمسيلمة ـ كشف عواره جميعهم ، و سلبهم الله ما ألفوه ، من
فصيح كلامهم ، و إلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ، و
لا جنس بلاغتهم ، بل و لوا عنه مدبرين ، و أتوا مذعنين من بين مهتد و بين
مفتون .
و لهذا لما سمع ال وليد بن مغيرة من النبي صلى الله عليه و سلم :
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر
والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [ سورة النحل / 16 ، الآية : 90 ] .
قال : و الله ، إن له لحلاوة ، و إن عليه لطلاوةً ، و إن أسفله لمغدق ، و إن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر .
و ذكر أبو عبيد أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ :
فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين فسجد ، و قال : سجدت لفصاحته .
و سمع آخر رجلاً يقرأ :
فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا [ سورة يوسف / 12 ، الآية : 80 ] .
فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام .
و حكي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يوماً نائماً في المسجد فإذا
هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق ، و استخبره ، فأعلمه أنه من بطارقة
الروم ممن يحسن كلام العرب و غيرها ، و أنه سمع رجلاً من أسرى المسلمين [
92 ] يقرأ آية من كتابكم فتأملتها ، فإذا [ هي ] قد جمع فيها ما أنزل على
عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا و الآخرة ، و هي قوله تعالى : ومن يطع الله
ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [ سورة النور / 24 ، الآية : 52
] .
و حكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك !
فقالت : أو يعد هذا فصاحةً بعد قول الله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن
أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك
وجاعلوه من المرسلين ، فجمع في آية واحدة بين أمرين و نهيين ، و خبرين ، و
بشارتين .
فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته ، غير مضاف إلى غيره على التحقيق و الصحيح من القولين .
و كون القرآن من قبل النبي صلى الله عليه و سلم ، و أنه أتى به ـ معلوم
ضرورة ، و كونه ـ عليه السلام ـ متحدياً بع معلوم ضرورة ، و عجز العرب عن
الإتيان بع معلوم ضرورة ، و كونه في فصاحته خارقاً للعادة معلوم ضرورة
للعالمين بالفصاحة و وجوه البلاغة ، و سبيل من ليس من أهلها علم ذلك بعجز
المفكرين من أهلها عن معارضته و اعتراف المفسرين بإعجاز بلاغته .
و أنت إذا تأملت قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 179 ] .
و قوله : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب .
و قوله : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم .
و قوله : وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر
واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين [ سورة هود / 11 ، الآية : 44 ]
.
و قوله : فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته
الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا [ سورة العنكبوت / 29 ،
الآية : 40 ] .
و أشباهها من الآي ، بل أكثر القرآن حققت ما بينته من إيجار ألفاظها ، و
كثرة معانيه ، و ديباجة عبارتها ، و حسن تأليف حروفها ، و تلاؤم كلمها ، و
أن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة ، و فصولاً جمة ، و علوماً زواخر ، ملئت
الدواوين من بعض ما استفيد منها ، و كثرت المقالات في المستنبطات عنها .
ثم هو في سرده القصص الطوال ، و أخبار القرون السوالف ، التي يضعف في عادة
الفصحاء عندها الكلام ، و يذهب ماء البيان ـ آية لمتأمله ، من ربط الكلام
بعضه ببعض ، و التئام سرده ، و تناصف وجوهه ، كقصة يوسف على طولها .
ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة
تنسي في البيان صاحبتها ، و تناصف في الحسن وجه مقابلتها ، و لا نفور
للنفوس من ترديدها ، و لا معاداة لمعادها .
فصل
في إعجاز القرآن ـ الوجه الثاني
الوجه الثاني من إعجازه صورة نظمه العجيب ، و الأسلوب الغريب المخالف
لأساليب كلام العرب و مناهج نظمها و نثرها الذي جاء عليه ، و وقفت مقاطع
آية ، و انتهت فواصل كلماته إليه ، و لم يوجد قبله و لا بعده نظير له ، و
لا استطاع أحد مماثلة شيء منه ، بل حارت فيه عقولهم ، و تدلهت دونه أحلامهم
، و لم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم ، أو سجع أو رجز ، أو
شعر .
و لما سمع كلامه صلى الله عليه و سلم الوليد بن المغيرة ، و قرأ عليه
القرآن ـ رق ، فجاءه أبو جهل منكراً عليه [ 93 ] ـ قال : و الله ما منكم
أحد أعلم بالأشعار مني ، و الله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا .
و في خبره الآخر ـ حين جمع قريشً عند حضور الموسم ، و قال : إن وفود العرب
ترد فأجمعوا فيه رأياً ، لا يكذب بعضكم بعضاً ، فقالوا : نقول كاهن . قال :
و الله ما هو بكاهن . ما هو بزمزمته و لا سجعه .
قالوا : مجنون : قال : ما ههو بمجنون ، و لا بخنقه و لا وسوسته .
قالوا : فنقول شاعر . قال : ماهو بشاعر . قد عرفنا الشعر كله ، رجزه ، و هزجه ، و قريضه ، و مبسوطه ، و مقبوضه ، ما هو بشاعر .
قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر ، و لا نفثه و لا عقده .
قالوا : فما نقول : قال : ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً ، إلا و أنا أعرف
أنه باطل ، و إن أقرب القول أنه ساحر ، فإنه سحر يفرق بين المرء و ابنه ، و
المرء و أخيه ، و المرء وزوجه ، و المرء و عشيرته .
فتفرقوا و جلسوا على السبل يحذرون الناس ، فأنزل الله تعالى في الوليد :
ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له
تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا *
إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم
أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر [ سورة المدثر / 74 ، الآية 11 ،
24 ] .
و قال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن : يا قوم ، قد علمتم أني لم أترك شيئاً
إلا و قد علمته و قرأته و قلته ، و الله لقد سمعت قولاً و الله ما سمعت
مثله قط ، ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، و لا بالكهانة .
و قال النضر بن الحارث نحوه .
و في حديث إسلام أبو ذر و وصف أخاه أنيساً ، فقال : و الله ما سمعت بأشعر
من أخي أنيس ، لقد ناقض اثني عشر شاعراً في الجاهلية ، أنا أحدهم ، و إنه
انطلق إلى مكة ، و جاء إ لى أبي ذر بخبر النبي صلى الله عليه و سلم . قلت :
فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر : كاهن ، ساحر ، لقد سمعت قول
الكهنة فما هو بقولهم ، و لقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم ، و ما
يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، و إنه لصادق ، و إنهم لكاذبون .
و الأخبار في هذا صحيحة كثيرة .
و الإعجاز بكل واحد من النوعين : الإيجاز و البلاغة بذاتها ، أو الأسلوب
الغريب بذاته ، كل واحد منهما نوع إعجازه على التحقيق ، لم تقدر العرب على
الإتيان بواحد منهما ، إذا كل واحد خارج عن قدرتها ، مباين لفصاحتها و
كلامها ، و إلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين .
و ذهب بعض [ المحققين ] المقتدي بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة و
الأسلوب ، و أتى على ذلك بقول تمجه الأسماع ، و تنفر منه القلوب .
و الصحيح ما قدمناه ، و العلم بهذا كله ضرورة قطعاً .
و من تفنن في علوم البلاغة ، و أرهف خاطره و لسانه أدب هذه الصناعة لم يخف عليه ما قلناه .
و قد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه ، فأكثرهم يقول : إنه ما جمع
في قوة جزالته ، و نصاعة ألفاظه ، و حسن نظمه ، و إيجازه ، و بديع تأليفه و
أسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البش ر ، و أنه من باب الخوارق الممتنعة
عن إقدار الخلق عليها ، كإحياء الموتى ، و قلب العصا ، و تسبيح الحصى .
و ذهب الشيخ أبو الحسن إلى أن مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، و
يقدرهم الله عليه ، و لكنه لم يكن هذا و لا يكون ، فمنهم الله هذ1 [ 94 ] ،
و عجزهم عنه .
و قال به جماعة من أصحابه .
و على الطريقين فعجز العرب عنه ثابت ، و إقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون
في مقدور البشر ، و تحديهم بأن يأتوا بمثله ـ قاطع ، و هو أبلغ في التعجيز
، و أحرى بالتقريع ، و الإحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر
لا زم ، و هو أبهر آية ، و أقمع دلالة .
و على كل حال فما أتوا في ذلك بمقال ، بل صبروا على الجلاء ، و القتل ، و
تجرعوا كاسات الصغار و الذل ، و كانوا من شموخ الآنف ، و إباية الضيم ،
بحيث لا يؤثرون ذلك اختياراً ، و لا يرضونه إلا اضطراراً ، و إلا فالمعارضة
لو كانت من قدرهم ، الشغل بها أهون عليهم و أسرع بالنجح و قطع العذر و
إفحام الخصم لديهم ، و هم ممن لهم قدرة على الكلام ، و قدوة في المعرفة به
لجميع الأنام ، و ما منهم إلا من جهد جهده ، و استنفد ما عنده في إخفاء
ظهوره ، و إطفاء نوره ، فما جلوا في ذلك خبيئةً من بنات شفاههم ، و لا أتوا
بنطفة من معين مياههم ، مع طول الأمد ، و كثرة العدد ، و تظاهر الوالد و
ما ولد ، بل أبلسوا فما نبسوا ، و منعوا فانقطعوا ، فهذان نوعان من إعجازه .

فصل
في إعجاز القرآن ـ الوجه الثالث
الوجه الثالث من الإعجاز ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات ، و ما لم يكن
و لم يقع ، فوجد ، كما ورد ، و على الوجه الذي أخبر به ، كقوله تعالى :
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 27 ] .

و قوله تعالى : وهم من بعد غلبهم سيغلبون [ سورة الروم / 30 ، الآية : 3 ] .
و قوله : ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 33 ] .
و قوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض
كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من
بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم
الفاسقون [ سورة النور / 24 ، الآية : 55 ] .
و قوله : إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا
* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ سورة النصر / 110 ، الآية : 1 ،
3 ] .
فكان جميع هذا ، كما قال ، فغلبت الروم فارس في بضع سنين ، و دخل الناس في
الإسلام أفواجاً ، فما مات صلى الله عليه و سلم و في بلاد العرب كلها موضع
لم يدخ له الإسلام .
و استخلف الله المؤمنين في الأرض ، و مكن فيها دينهم ، و ملكهم إياها من
أقصى المشارق إلى أقصى المغارب ، كما قال عليه السلام : زويت إلى الأرض ،
فأريت مشارقها و مغاربها ، و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها .
و قوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، فكان كذلك ، لا يكاد يعد
من سعى في تغييره و تبديل محكمه من الملحدة و المعطلة ، لا سيما القرامطة ،
فأجمعوا كيدهم و حولهم و قوتهم ، اليوم نيفاً على خمسمائة عام ، فما قدروا
على إطفاء شيء من نوره ، و لا تغيير كلمة من كلامه ، و لا تشكيك المسلمين
في حرف من حروفه ، و الحمد لله .
و منه قوله : سيهزم الجمع ويولون الدبر [ سورة القمر / 54 ، الآية : 45 ] .
و قوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 14 ] .
و قوله : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 33 ] .
0و قوله: لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . فكان كل ذلك .
و ما فيه من كشف أسرار المنافقين و اليهود ، و مقالهم و كذبهم في حلفهم ، و
تقريعهم بذلك ، كقوله : ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول .
و قوله : يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء
ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى
مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات
الصدور .
و قوله ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون
الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن
يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر
قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ سورة المائدة / 5
الآية : 41 ] .
و قوله : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا
واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين [95] [ سورة النساء / 4
، الآية : 46 ] .
و قد قال مبدياً ، ما قدره الله واعتقده المؤمنين يوم بدر : وإذ يعدكم الله
إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم سورة الأنفال
/8 ، الآية : 7 ] .
و منه قوله تعالى : إنا كفيناك المستهزئين [ سورة الحجر / 15 ، الآية : 95 ] .
و لما نزلت بشر النبي صلى الله عليه و سلم نذلك أصحابه بأن الله كفاه إياهم
، و كان المستهزئون نفراً بمكة ينفرون الناس عنه و يؤذونه فهلكوا .
و قوله والله يعصمك من الناس ، فكان كذلك على كثرة من رام ضره ، و قصد قتله ، و الأخبار بذلك معروفة صحيحة .
فصل
في إعجاز القرآن ـ الوجه الرابع
الوجه الرابع ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، و الأمم البائدة ، و
الشرائع الداثرة ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أخبار
أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك ، فيورده النبي صلى الله عليه و سلم
على وجهه ، و يأتي به على نصه ، فيعترف العالم بذلك بصحته و صدقه ، و أن
مثله لم ينله بتعليم .
و قد علموا أنه صلى الله عليه و سلم أمي لا يقرأ و لا يكتب ، و لا اشتغل
بمدارسة و لا مثافنة ، و لم يغب عنهم ، و لا جهل حاله أحد منهم .
و قدكان أهل الكتاب كثيراًما يسألونه ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن هذا ،
فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً ، كقصص الأنبياء مع قومهم ، و
خبر موسى و الخضر ، و يوسف و إخوته ، و أصحاب الكهف ، و ذي القرنين، و
لقمان و ابنه ، و أشباه ذلك من الأنبياء [و القصص] ، و بدء الخلق و ما في
التوراة ، و الإنجيل ، و الزبور ، و صحف إبراهيم و موسى ، مما صدقه فيه
العلماء بها ، و لم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها ، بل أذعنوا لذلك ، فمن
موفق آمن بما سبق له من خير ، و من شقي معاند حاسد ، و مع هذا لم يحك عن
واحد من النصارى و اليهود على شدة عداوتهم له ، و حرصهم على تكذيبه ، و طول
احتجاجه عليهم بما في كتبهم ، و تقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم ، و كثرة
سؤالهم له صلى الله عليه و سلم ، و تعنيتهم إياه ـ عن أخبار أنبيائهم ، و
أسرار علومهم ، و مستودعات سيرهم ، و إعلامه لهم بمكتوم شرائعهم و مضمنات
كتبهم ، مثل سؤالهم عن الروح ، و ذي القرنين ، و أصحاب الكهف ، و عيسى ، و
حكم الرجم و ما حرم إسرائيل على نفسه ، و ما حرم عليهم من الأنعام ، و من
طيبات أحلت لهم فحرمت عليهم ببغيهم .
و قوله : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره
فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار [ سورة الفتح / 48 ،
الآية : 29 ] .
و غير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن ، فأجابهم و عرفهم بما أوحى إليه
من ذلك أنه أنكر ذلك أو كذبه ، بل أكثرهم صرح بصحة نبوته ، و صدق مقالته ،
و

descriptionكتاب الشفاء .. كامل Emptyرد: كتاب الشفاء .. كامل

more_horiz
، ثم فارت الجفنة و استدارت حتى امتلأت ، و أمر الناس بالإستقاء ، فاستقوا حتى رووا .
فقلت : هل بقي أحد له حاجة ؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده من الجفنة و هي ملائ .
و عن الشعبي : أتي النبي صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره بإداوة ماء ، و
قيل : ما معنا يا رسول الله ماء غيرها ، فسكبها في ركوة ، و وضع إصبعه و
سطها ، و غمسها في الماء ، و جعل الناس يجيئون و يتوضئون ثم يقومون .
قال الترمذي و في الباب ، عن عمران بن حصين .
و مثل هذا في هذه المواطن الحفلة و الجموع الكثيرة لا تتطرق التهمة إلى
المحدث به ، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه ، لما جبلت عليه النفوس من
ذلك ، و لأنهم كانوا ممن لا يسكت على باطل ، فهؤلاء قد رووا هذا ، و أشاعوه
، و نسبوا حضور الجماء الغفير له ، و لم ينكر أحد من الناس عليهم ما حدثوا
به عنهم أنهم فعلوا و شاهدوه ، فصار متصديق جميعهم له .
فصل
و مما يشبه هذا من معجزاته
و مما يشبه هذا من معجزاته تفجير الماء ببركته ، و انبعاثه بمسه و دعوته
فيما روى مالك في الموطأ عن معاذ بن جبل في قصة غزوة تبوك ، و أنهم وردوا
العين و هي تبض بشيء من ماء مثل الشراك ، فغرفوا من العين بأيديهم حتى
اجتمع في شيء ، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه و جهه و يديه ، و
أعادة فيها ، فجرت بماء كثير ، فاستقى الناس .
قال ـ في حديث ابن إسحاق : فانخرق من الماء ما له حس كحس الصواعق .
ثم قال : يوشك يا معاذ ، إن طالت بك حياة أن ترى ها هنا قد مليء جناناً .
و في حديث البراء ، و مسلمة بن الأكوع ـ و حديثه أتم ـ في قصة الحديبية ، و
هم أربع عشرة مائة ، و بئرها لا تروي خمسين شاة ، فنزحناها فلم نترك فيها
قطرة ، فقعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على جباها .
قال البراء ، و أتي بدلو منها ، فبصق [ 102 ] فدعا .
و قال سلمة : فإما دعا ، و إما بصق فيها ، فجاشت ، فأرووا أنفسهم و ركابهم .
و في غير هذه الروايتين ـ في هذه القصة ـ من طريق ابن شهاب [ في الحديبية ] :
فأخرج سهماً من كنانته ، فو ضع في قعر قليب ليس فيه ماء ؟ فروي الناس حت ى ضربوا بعطن .
و عن أبي قتادة ـ و ذكر أن الناس شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
العطش في بعض أسفاره ، فدعا بالميضأة ، فجعلها في ضبنه ، ثم التقم فمها ،
فالله أعلم ـ نفث فيها أم لا ، فشرب الناس حتى رووا و ملئوا كل إناء معهم ،
فخيل إلي أنها كما أخذها مني ، و كانوا اثنين و سبعين رجلاً .
و روى مثله عمران بن حصين .
و ذكر الطبري حديث أبي قتادة على غير ما ذكره أهل الصحيح ـ و أن النبي صلى
الله عليه و سلم خرج بهم ممداً لأهل مؤتة عندما بلغه قتل الأمراء :
و ذكر حديثاً طويلاً فيه معجزات و آيات للنبي صلى الله عليه و سلم ، و فيه إعلامهم أنهم يفقدون الماء في غد .
و ذكر حديث الميضأة ، قال : و القوم زهاء ثلاثمائة .
و في كتاب مسلم أنه قال لأبي قتادة : احفظ علي ميضأتك ، فإنه سيكون لها نبأ .. و ذكر نحوه .
و من ذلك حديث عمران بن حصين حين أصاب النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه
عطش في بعض أسفارهم ، فوجه رجلين من أصحابه ، و أعلمهما أنهما يجدان امرأةً
بمكان كذا معها بعير عليه مزادتان . . . الحديث ، فوجداها و أتيا بها إلى
النبي صلى الله عليه و سلم ، فج عل في إناء من مزادتيها ، و قال فيه ما شاء
الله أن يقول ، ثم أعاد الماء في المزادتين ، ثم فتحت عزاليهما ، و أمر
الناس فملئوا أسقيتهم حتى لم يدعوا شيئاً إلا ملئوه .
قال عمران : و تخيل إلي أنهم لم تزدادا إلا امتلاءً ، ثم أمر فجمع للمرأة
من الأزواد حتى ملأ ثوبها . و قال : اذهبي ، فإنا لم نأخذ من مائك شيئاً ، و
لكن الله سقانا . . . الحديث بطوله .
و عن سلمة بن الأكوع : قال نبي الله صلى الله عليه و سلم : هل من وضوء ؟
فجاء رجل بإداوة فيها نطفة فأفرغها في قدح ، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة
أربع عشرة مائة . . . [ الحديث بطوله ] .
و في حديث عمر ـ في جيش العسرة : و ذكر ما أصابهم من العطش ، حتى إن الرجل
لينحر بعيره ، فيعصر فرثه فيشربه ، فرغب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه و
سلم في الدعاء ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت ، فملئوا
ما معهم من آنية ، و لم تجاوز العسكر .
و عن عمر بن شعيب ـ أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه و سلم ، و هو
رديفه بذي المجاز : عطشت و ليس عندي ماء ، فنزل النبي صلى الله عليه و سلم ،
و ضرب بقدمه الأرض ، فخرج الماء ، فقال : اشرب .
و الحديث في هذا الباب كثير ، و منه الإجابة بدعاء الاستسقاء و ما جانسه .

فصل
و من معجزاته تكثير الطعام و دعائه
حدثنا القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، حدثنا العذري ، حدثنا الرازي ،
حدثنا الجلودي ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا سلمة بن
شبيب ، حدثنا الحسن بن أعين ، حدثنا معقل ، عن أبي الزبير ، عن جابر ـ أن
رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم [ 103 ] يستطعمه ، فأطعمه شطر وسق
شعير ، فما زال يأكل منه و امرأته و ضيفه حتى كاله ، فأتى النبي صلى الله
عليه و سلم ، فأخبره ، فقال : لو لم تكله لأكلتم منه و لقام بكم .
و من ذلك حديث أبي طلحة المشهور ، و إطعامه صلى الله عليه و سلم ثمانين أو
سبعين رجلاً من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت يده ، أي إبطه ، فأمر بها
ففتت ، و قال فيهما ما شاء الله أن يقول .
و حديث جابر في إطعامه صلى الله عليه و سلم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير و عناق .
و قال جابر : فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه و انحرفوا ، و إن برمتنا لتغط كما هي ، و إن عجيننا ليخبز .
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بصق في العجين و البرمة ، و بارك .
رواه عن جابر سعيد بن ميناء ، و أيمن .
[ و عن ثابت مثله ، عن رجل من الأنصار و امر أته ، و لم يسمهما ، قال : و
جيء بمثل الكف ، فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يبسطها في الإناء و
يقول ما شاء الله ، فأكل منه من في البيت و الحجرة و الدار ، و كان ذلك قد
امتلأ ممن قدم معه صلى الله عليه و سلم لذلك ، و بقي بعد ما شبعوا مثل ما
كان في الإناء ] .
و حديث أبي أيوب أنه صنع لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لأبي بكر من
الطعام زهاء ما يكفيهما ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ادع ثلاثين
من أشراف الأنصار فدعاهم فأكلوا حتى تركوا ، ثم قال : ادع ستين فكان مثل
ذلك ، ثم قال : ادع سبعين فأكلوا حتى تركوا ، و ما خرج منهم أحد حتى أسلم و
بايع .
قال أبو أيوب : فأكل من طعامي مائة و ثمانون رجلاً .
و عن سمرة بن جندب : أتى النبي صلى الله عليه و سلم بقصعة فيها لحم ، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل ، يقوم قوم و يقعد آخرون .
و من ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي بكر : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم
ثلاثين و مائة ، و ذكر في الحديث أنه عجن صاع من طعام ، و صنعت شاة ، فشوي
سواد بطنها قال : و أيم الله ، ما من الثلاثين و مائة إلا وقد حز له حزةً
من سواد بطنها ثم جعل منا قصعتين ، فأكل نا منها أجمعون ، و فضل في
القصعتين ، فحملته على البعير .
و من ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، عن أبيه ، و مثله لسلمة
بن الأكوع ، و أبي هريرة ، و عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فذكروا مخمصة
أصابت الناس مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض مغازيه ، فدعا ببقية
الأزواد ، فجاء الرجل بالحثية من الطعام ، و فوق ذلك ، و أعلاهم الذي أتى
بالصاع من التمر ، فجمعه على نطع .
قال سلمة : فحزرته كربضة العنز ، ثم دعا الناس بأو عيتهم ، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه و بقي منه .
و عن أبي هريرة : أمرني النبي صلى الله عليه و سلم أن ادعو له أهل الصفة ،
فتتبعتهم حتى جمعتهم ، فوضعت بين أيدينا صفحة ، فأكلنا ما شئنا ، و فرغنا و
هي مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع .
و عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم
بني عبد المطلب ، و كانوا أربعين ، منهم قوم يأكلون الجذعة ، و يشربون
الفرق ، فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا ، و بقي كما هو ، ثم دعا
بعس ، فشربوا حتى رووا ، و بقي كأنه لم يشرب منه .
و قال أنس : إن النبي صلى الله عليه و سلم حين اب تنى بزينب أمره أن يدعو
له قوماً سماهم ، و كل من لقيت ، حتى امتلأ البيت و الحجرة ، و قدم إليهم
تورا ، فيه قدر [ 104 ] مد من تمر جعل حيساً ، فوضعه قدامه ، و غمس ثلاث
أصابعه ، و جعل القوم يتغدون و يخرجون ، و بقي التور نحواً مما كان ، و كان
القوم أحداً ، أو اثنين و سبعين .
و في رواية أخرى في هذه القصة أو مثلها ، إن القوم كانوا زهاء ثلاثمائة ، و
أنهم أكلوا حتى شبعوا . و قال لي : ارفع ، فلا أدري حين وضعت كانت أكثر أم
حين رفعت .
و في حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ـ أن فاطمة طبخت
قدراً لغذائها و وجهت علياً إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليتغدى معهما ،
فأمر فغرفت منها لجميع نسائه صفحةً صفحةً ، ثم له صلى الله عليه و سلم و
لعلي ، ثم لها ، ثم رفعت القدر ، و إنها لتفيض ، قال : فأكلنا منها ما شاء
الله .
و أمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من أحمس ، فقال : يا رسول الله ،
ما هي إلا أصوع . قال : اذهب ، فذهب فزودهم منه ، و كان قدر الفصيل الرابض
، من التمر ، و بقي بحاله .
من ، رواية دكين الأحمسي ، و من رواية جرير .
و مثله من رواية النعمان بن مقرن الخبر بعينه ، إلا أنه قال : أربعمائة راكب من مزينة .
و من ذلك حديث جابر في دين أبيه بعد موته ، و قد كان بذل لغرماء أبيه أصل
ماله ، فلم يقبلوه ، و لم يكن في تمرها سنين كفاف دينهم ، فجاءه النبي صلى
الله عليه و سلم بعد أن أمره بجدها ، و جعلها بيادر في أصولها ، فمشى فيها ،
و دعا ، فأوفى منه جابر غرماء أبيه ، و فضل مثل ما كانوا يجدون كل سنة .
و في رواية مثل ما أعطاهم ، قال : و كان الغرماء يهود ، فعجبوا من ذلك .
و قال أبو هريرة رضي الله عنه : أصاب الناس مخمصة . فقال لي رسول الله صلى
الله عليه و سلم : هل من شيء قلت : نعم ، شيء من التمر في المزود . قال :
فأتني به فأدخل يده فأخرج قبضة ، فبسطها و دعا بالبركة ، ثم قال : ادع عشرة
فأكلوا حتى شبعوا ، ثم عشرة كذلك ، حتى أطعم الجيش كلهم و شبعوا . قال :
خذ ما جئت به ، وأدخل يدك ، و اقبض منه و لا تكبه ، فقبضت على أكثر مما جئت
به ، فأكلت منه و أطعمت حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أبي بكر ،
و عمر ، إلى أن قتل عثمان ، فانتهب مني ، فذهب .
و في رواية: فقد حملت من ذلك التمر كذا و كذا من و سق في سبيل الله .
و ذكرت مثل هذه الحكاية في غزوة تبوك ، و أن التمر كان بضع عشرة تمرة .
و منه أيضاً حديث أبي هريرة حين أصابه الجوع ، فاستتبعه النبي صلى الله
عليه و سلم ، فوجد لبناً في قدح قد أهدي إليه ، و أمره أن يدعو أهل الصفة .

قال : فقلت : ما هذا اللبن فيهم ؟ كنت أحق أن أصبي منه شربة أتقوى بها . فدعوتهم .
و ذكر أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يسقيهم ، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يأخذه الأخر حتى روي جميعهم .
قال : فأخذ النبي صلى الله عليه و سلم القدح ، و قال : بقيت أنا و أنت ،
اقعد فاشرب فشربت ، ثم قال : اشرب و ما زال يقولها و أشرب حتى قلت : لا ، و
الذي بعثك بالحق ، ما أجد له مسلكاً [ 105 ] ، فأخذ القدح فحمد الله و سمى
و شرب الفضلة .
و في حديث خال بن عبد العزى أنه أجزر النبي صلى الله عليه و سلم شاةً ، و
كان عيال خالد كثيراً يذبح الشاة فلا تبد عياله عظماً عظماً ، و إن النبي
صلى الله عليه و سلم أكل من هذه الشاة و جعل فضلتها في دلو خالد ، و دعا له
بالبركة ، فنثر ذلك لعياله ، فأكلوا و أفضلوا ـ ذكر خبره الدولابي .
و في حديث الآجري في إنكاح النبي صلى الله عليه و سلم لعلي فاطمة ـ أن
النبي صلى الله عليه و سلم أ مر بلالاً بقصعة من أربعة أمداد أو خمسة ، و
يذبح جزوراً ليوليمتها ـ قال : فأتيته بذلك فطعن في رأسها ، ثم أدخل الناس
رفقةً رفقةً يأكلون منها حتى فرغوا ، و بقيت منها فضلة ، فبرك فيها ، و أمر
بحملها إلى أزواجه ، و قال : كلن و أطعمن من غشيكن .
و في حديث أنس : تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فصنعت أمي أم سليم
حيساً ، فجعلته في تور ، فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ،
فقال : ضعه ، و ادع لي فلاناً و فلاناً ، و من لقيت .
فدعوتهم ، و لم أدع أحداً لقيته إلا دعوته ، و ذكر أنهم كانوا زهاء
ثلاثمائة حتى ملئوا الصفة و الحجرة ، فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم :
تحلقوا عشرة عشرة ، و وضع النبي صلى الله عليه و سلم يده على الطعام ،
فدعا فيه ، و قال ما شاء الله أن يقول ، فأكلوا حتى شبعوا كلهم ، فقال لي :
ارفع فما أدري حين وضعت كانت أكثر أم حين رفعت .
و أكثر أحاديث هذه الفصول الثلاثة في الصحيح . و قد اجتمع على معنى حديث
هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة ، رواه عنهم أضعافهم من التابعين ، ثم من لا
ينعد بعدهم .
و أكثرها في قصص مشهورة ، و مجامع مشهودة ، و لا يمكن التحدث عنها إ لا بالحق ، و لا يسكت الحاضر لها على ما أنكر منها .
فصل
في كلام الشجرة و شهادتها له بالنبوة و إجابتها دعوته
حدثنا أحمد بن محمد بن غلون الشيخ الصالح فيما أجاز فيه عن أبي عمر
الطلمنكي ، عن أبي بكر بن المهندس ، عن أبي القاسم البغوي ، حدثنا أحمد بن
عمران الأخنسي ، حدثنا أبو حيان التيمي ـ و كان صدوقاً ـ عن مجاهد ، عن ابن
عمر ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره ، فدنا منه
أعرابي ، فقال ، يا أعرابي ، أين تريد ؟ قال : إلى أهلي . قال : هل لك إلى
خير ؟ قال : و ما هو ؟ قال : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و
أن محمداً عبده و رسوله قال : من يشهد لك على ما تقول ؟ قال : هذه الشجرة
السمرة ، و هي بشاطئ الوادي ، و ادعها فإنها تجيبك .
فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه ، فاستشهدها ثلاثاً ، فشهدت أنه كما قال ، ثم رجعت إلى مكانها .
و عن بريدة : سأل أعرابي النبي صلى الله عليه و سلم آية ، فقال له : قل لتلك الشجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوك .
قال : فمالت الشجرة عن يمينها و شمالها و بين يديها و خلفها ، فتقطعت
عروقها ، ثم جاءت [ 106 ] تخد الأرض تجر مغبرةً حتى وقفت بين يدي رسول الله
صلى الله عليه و سلم ، فقالت : السلام عليك يا رسول الله .
قال الأعرابي : مرها فلترجع إلى منبتها ، فرجعت ، فدلت عروقها فاستوت .
فقال الأعرابي : ائذن لي أسجد لك .
قال : لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها .
قال : فأذن لي أن أقبل يديك و رجليك ، فأذن له .
و في الصحيح أ في حديث جابر بن عبد الله الطويل : ذهب رسول الله صلى الله
عليه و سلم يقضي حاجته ، فلم ير شيئاً يستتر به ، فإذا بشجرتين في شاطىء
الوادي ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى إحداهما ، فأخذ بغصن من
أغصانها ، فقال : انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي
يصانع قائده .
و ذكر أنه فعل بالأخرى مثل ذلك ، حتى إذا كان بالمصنف بينهما قال : التئما علي بإذن الله فالتأمتا .
رواية أخرى : فقال : يا جابر ، قل لهذه الشجرة : يقول لك رسول الله صلى
الله عليه و سلم : الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما ففعلت ، فرجعت حتى لحقت
بصاحبتها فجلس خلفهما ، فخرجت أحضر ، و جلست أحدث نفسي ، فالتفت فإذا برسول
الله صلى الله عليه و سلم مقبلاً و الشجرتان قد افترقتا ، فقامت كل واحدة
منهما على ساق ، فوق ف رسول الله صلى الله عليه و سلم و قفةً ، فقال برأسه
هكذا يميناً و شمالاً .
و روى أسامة بن زيد نحوه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض
مغازيه : هل تعني مكاناً لحاجة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقلت : إن
الوادي ما فيه موضع بالناس . فقال : هل ترى من نخل أو حجارة ؟ قلت : أرى
نخلات متقاربات . قال : انطلق و قل : لهن : إن رسول الله صلى الله عليه و
سلم يأمركن أن تأتين لمخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قل للحجارة
مثل ذلك .
فقلت ذلك لهن ، فو الذي بعثه بالحق ، لقد رايت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن ، و الحجارة يتعاقدن حتى صرن زكاماً خلقهن .
فلما قضى حاجته قال لي : قل لهن يفترقن ، فو الذي نفسي بيده لرأيتهن و الحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهن .
و قال يعلى بن سيابة : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم في مسير . . . و
ذكر نحواً من هذين الحديثين ، و ذكر : فأمر و ديتين فانضمتا . و في رواية :
أشاءتين .
و عن غيلان بن سلمة الثقفي مثله : في شجرتين .
و عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله في غزاة حنين .
و عن يعلى بن مرة ـ و هو ابن سي ابة ـ أيضاً ، و ذكر أشياء رآها من رسول
الله صلى الله عليه و سلم ، فذكر أن طلحة أو سمرةً جاءت فأطافت به ، ثم
رجعت إلى منبتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنها استأذنت أن
تسلم علي .
و في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : آذنت النبي صلى الله عليه و سلم بالجن ليلة [ 107 ] استمعوا له ـ شجرة .
و عن مجاهد ، عن ابن مسعود في هذا الحديث : إن الجن قالوا : من يشهد لك ؟
قال : هذه الشجرة . تعالى يا شجرة ، فجاءت تجر عروقها لها قعاقع . . .
و ذكر مثل الحديث الأول أو نحوه .
قال القاضي أبو الفضل : فهذا ابن عمر ، و بريدة ، و جابر ، و ابن مسعود ، و
يعلى بن مرة ، و أسامة بن زيد ، و أنس بن مالك ، و علي بن أبي طالب ، و
ابن عباس ، و غيرهم ـ و قد اتفقوا على هذه القصة نفسها أو معناها .
و قد رواها عنهم من التابعين أضعافهم ، فصارت في انتشارها من القوة حيث هي .
و ذكر ابن فورك أنه صلى الله عليه و سلم سار في غزوة الطائف ليلاً ، و هو
وسن ، فاعترضته سدرة ، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما ، و بقيت على ساقين
إلى وقتنا هذا ، و هي هناك معروفة معظمة .
و من ذلك حديث أنس رضي الله عنه ـ أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله
عليه و سلم ـ ورآه حزيناً : أتحب أن أريك آية ؟ قال : نعم فنظر رسول الله
صلى الله عليه و سلم إلى شجرة من وراء الوادي ، فقال : ادع تلك الشجرة ،
فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه .
قال : مرها فلترجع ، فعادت إلى مكانها .
و عن علي نحو هذا ، و لم يذكر فيها جبريل ، قال : اللهم أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها فدعا شجرة ... و ذكر مثله .
و حزنه صلى الله عليه و سلم لتكذيب قومه و طلبه الآية لهم لا له .
و ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه و سلم أرى ركانة مثل هذه الآية في
شجرة دعاها فأتت حتى وقفت بين يديه ، ثم قال : ارجعي ، فرجعت .
و عن الحسن أنه صلى الله عليه و سلم شكا إلى ربه من قومه و أنهم يخوفونه ، و
سأله آية يعلم بها ألا مخافة عليه ، فأوحى إليه ائت وادي كذا فيه شجرة ،
فادع غصنا منها يأتك . ففعل ، فجاء يخط الأرض خطا حتى انتصب بين يديه ،
فحبسه ما شاء الله ، ثم قال له : [ ارجع كما جئت ] فرجع ، فقال : [ يا رب ،
علمت أن لا مخافة علي ] .
و نحو منه عن عمر ، و قال فيه : أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها ... و ذكر نحوه .
و عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه و سلم قال لأعرابي : [
أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله ؟ ] قال : نعم ،
فدعاه فجعل ينقر حتى أتاه . فقال : ارجع فعاد إلى مكانه
و خرجه الترمذي ، و قال : هذا حديث صحيح .
فصل
في قصة حنين الجذع
و يعضد هذه الأخبار حديث أنين الجذع ، و هو في نفسه مشهور منتشر ، و الخبر
به متواتر ، قد خرجه أهل الصحيح ، ورواه من الصحابة بضعة عشر ، منهم أبي بن
كعب ، و جابر بن عبد الله ، و أنس بن مالك ، و عبد الله بن عمر ، و عبد
الله بن عباس ، و سهل بن سعد ، و أبو سعيد الخدري و بريدة ، و أم سلمة ، و
المطلب بن أبي وداعة ، كلهم يحدث بمعنى هذا الحديث .
قال الترمذي : و حديث أنس صحيح .
قال جابر بن عبد الله [ 108 ] : كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل ، فكان
النبي صلى الله عليه و سلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر
سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار .
و في رواية أنس : حتى ارتج المسجد بخواره .
و في رواية سهل : وكثر بكاء الناس لما رأوا به .
و في رواية المطلب [و أبي ] : حتى تصدع وانشق ، حتى جاء النبي صلى الله عليه و سلم ، فوضع يده عليه فسكت .
زاد غيره : فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن هذا بكى لما فقد من الذكر .
و زاد غيره : والذي نفسي بيده : لو لم التزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة .
تحزناً على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأمر به صلى الله عليه و سلم
فدفن تحت المنبر .
كذا في حديث المطلب ، و سهل بن سعد ، و إسحاق ، عن أنس .
[ و في بعض الروايات عن سهل : فدفنت تحت منبره ، أو جعلت في السقف ] .
و في حديث أبي : فكان إذا صلى النبي صلى الله عليه و سلم إليه ، فلما هدم
المسجد أخذه أبي ، فكان عنده إلى أن أكلته الأرض ، وعاد رفاتاً .
وذكر الإسفرايني أن النبي صلى الله عليه و سلم دعاه إلى نفسه ، فجاء يخرق الأرض ، فالتزمه ، ثم أمره فعاد إلى مكانه .
و في حديث بريده : فقال رسول الله النبي صلى الله عليه و سلم : إن شئت أدرك
إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ، و يكمل خلقك ، و يجدد لك خوص و
ثمرة ، و إن شئت أغرسك في الجنة ، فيأكل أولياء الله من ثمرك . ثم أصغى له
النبي صلى الله عليه و سلم يسمع ما يقول .
فقال : تغرسني في الجنة ، فيأكل مني أولياء الله ، و أكون في مكان لا أبلى فيه .
فسمعه من يليه .
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : قد فعلت ثم قال : اختار دار البقاء على دار الفناء .
فكان الحسن إذا حدث بهذا بكى ، و قال : يا عباد الله ، الخشبة تحن إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم شوقاً إليه لمكانه ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى
لقائه .
رواه ـ عن جابر ـ حفص بن عبيد الله و يقال : عبيد الله بن حفص ، و أيمن ، و
أبو نضرة ، و ابن المسيب ، و سعيد بن أبي كرب ، و كريب ، و أبو صالح .
و رواه عن أنس بن مالك الحسن ، و ثابت ، و إسحاق بن أبي طلحة .
و رواه عن ابن عمر : نافع ، و أبو حية ، و رواه أبو نضرة ، و أبو الوداك ،
عن أبي سعيد ، و عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، و أبو حازم ، و عباس بن
سهل ، عن سهل بن سعد ، و كثير بن زيد عن المطلب ، و عبد الله بن بريدة عن
أبيه ، و الطفيل بن أبي عن أبيه .
قال القاضي أبو الفضل : فهذا حديث كما تراه خرجه أهل الصحة ، و رواه من
الصحابة من ذكرنا ، و غيرهم من التابعين ضعفهم ، إلى من لم نذكره ، و بمن
دون هذا العدد يقع العلم لمن اعتنى بهذا الباب . و الله المثبت على الصواب .



فصل
و مثل هذا في سائر الجمادات
[ 109 ] حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التميمي ، حدثنا القاضي
أبو عبد الله محمد بن المرابط ، حدثنا المهلب ، حدثنا أبو الحسن القابسي ،
حدثنا المروزي ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن المثنى ،
حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ،عن علقمة
، عن ابن مسعود ، قال : لقد كنا نسمع تسبيح الطعام و هو يؤكل .
و في غير هذه الرواية عن ابن مسعود : كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الطعام و نحن نسمع تسبيحه .
و قال أنس : أخذ النبي صلى الله عليه و سلم كفا من حصى ، فسبحن في في يد
رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى سمعنا التسبيح ، ثم صبهن في يد أبي بكر
رضي الله عنه فسبحن ، ثم في أيدينا فما سبحن .
و روى مثله أبو ذر ، و ذكر أنهم سبحن في كف عمر و عثمان .
و قال علي كنا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فخرج إلى بعض
نواحيها ما استقبله شجرة و لا جبل إلا قال له : السلام عليك يا رسول الله .

و عن جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه و سلم : إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي . قيل : إنه الحجر الأسود .
و عن عائشة رضي الله عنها : لما استقبلني جبريل عليه السلام بالرسالة جعلت
لا أمر بحجر و لا شجر إلا قال : السلام عليك يارسول الله .
و عن جابر بن عبد الله : لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يمر بحجر و لا شجر إلا سجد له .
و في حديث العباس ، إذا اشتمل عليه النبي صلى الله عليه و سلم و على بنيه ،
بملاءة ، و دعالهم بالستر من النار كستره إياهم بملاءته ، فأمنت أسكفة
الباب و حوائط البيت : آمين آمين.
و عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : مرض النبي صلى الله عليه و سلم فأتاه جبريل
بطبق فيه رمان و عنب فأكل منه النبي صلى الله عليه و سلم ، فسبح .
و عن أنس : صعد النبي صلى الله عليه و سلم ، و أبو بكر ، و عمر ، و عثمان،
أحداً ، فرجف بهم ، فقال : اثبت أحد ، فإنما عليك نبي و صديق ، و شهيدان .
و مثله عن أبي هريرة في حراء ، و زاد معه : علي و طلحة ، و الزبير ، و قال : فإنما عليك نبي ، أو صديق ،أو شهيد .
و الخبر في حراء أيضاً عن عثمان ، قال : و معه عشر من أصحابه أنا فيهم .
و زاد عبد الرحمن و سعداً ، قال : و نسيت الإثنين .
و في حديث سعيد بن زيد أيضاً مثله ، و زاد عشرة ، و زاد نفسه .
و قد روي أنه حين طلبته قريش قال له ثبير : اهبط يا رسول الله ، فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله .
فقال حراء : إلي يا رسول الله .
و روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ على المنبر
: وما قدروا الله حق قدره ، ثم قال : يمجد الجبار نفسه ، أنا الجبار ، أنا
الجبار ، أنا الكبير المتعال ، فرجف المنبر حتى قلنا : ليخرن عنه .
و عن ابن عباس : كان حول البيت ستون و ثلاثمائة صنم مثبته الأرجل بالرصاص
بالحجارة ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد عام الفتح جعل
يشير بقضيب في يده إليها و لا يمسها و يقول : جاء الحق و زهق الباطل إن
الباطل كان زهوقاً ، فما أشار إلى وجه صنم إلا وقع لقفاه ، و لا لقفاه إلا
وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم .
و مثله في حديث ابن مسعود ، و قال : فجعل يطعنها و يقول : جاء الحق و ما يبدىء الباطل و ما يعيد .
و من ذلك حديثه مع الراهب في ابتداء أمره ، إذ خرج تاجراً مع عمه ، و كان
الراهب لا يخرج لأحد ، فخرج يتخللهم ، حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه
و سلم ، فقال : هذا سيد العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين .
فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ، فقال : إنه لم يبق شجر و لا حجر إلا خر
ساجداً له ، و لا تسجد إلا لنبي ... و ذكر القصة ، ثم قال : فأقبل صلى الله
عليه و سلم و عليه غمامة تظلله ، فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه إلى فيء
الشجرة ، فلما جلس مال الفيء إليه .
فصل
في الآيات في ضروب الحيوانات
حدثنا سراج بن عبد الملك ، حدثنا أبو الحسن الحاقظ ، حدثنا أبي ، حدثنا
القاضي يونس ، قال : حدثنا أبو الفضل الصلقي ، حدثنا ثابت بن قاسم بن ثابت ،
من أبيه و جده ، قالا حدثنا أبو العلاء أحمد بن عمران ، حدثنا محمد بن
فضيل ، حدثنا يونس بن عمرو حدثنا مجاهد عن عائشة رضي الله عنها ، قالت :
كان عندنا داجن ، فإذا كان عندنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قر و ثبت
مكانه ، فلم يجيء و لم يذهب ،و إذا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء و
ذهب .
و روى عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في محفل من أصحابه إذ
جاء أعرابي قد صاد ضباً ، فقال ، ما هذا ؟ قالوا : نبي الله . فقال : و
اللات و العزى ، لا آمنت بك أو يؤمن هذا الضب ، و طرحه بين يدي النبي صلى
الله عليه و سلم ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا ضب ، فأجابه بلسان
مبين يسمعه القوم جميعاً : لبيك و سعديك يا زين من وافى القيامة .
قال : من تعبد ؟ قال : الذي في السماء عرشه ، و في الأرض سلطانه ، و في البحر سبيله ، و في الجنة رحمته ، و في النار عقابه .
قال : فمن أنا ؟ قال : رسول الله رب العالمين ، و خاتم النبيين ، و قد أفلح من صدقك ، و خاب من كذبك .
فأسلم الأعرابي .
و من ذلك قصة كلام الذئب المشهورة عن أبي سعيد الخذري :
بينا راع يرعى غنماً له عرض الذئب لشاة منها ، فأخذها الراعي منه ، فأقعى
الذئب ، و قال للراعي : ألا تتقي الله ! حلت بيني و بين رزقي ! قال الراعي :
العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس ! فقال الذئب : ألا أخبرك بأعجب من ذلك ؟
رسول الله بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق .
فأتى الراعي النبي الله فأخبره ، فقال النبي : قم فحدثهم ، ثم قال : صدق .
و الحديث فيه قصة ، و في بعضه طول .
و روي حديث الذئب عن أبي هريرة .
و في بعض الطرق عن ابي هريرة رضي الله عنه ، فقال الذئب : أنت أعجب ! و
اقفاً على غنمك ، و تركت نبياً لم يبعث الله نبياً قط أعظم منه عنده [111]
قدراً ، قد فتحت له أبواب الجنة ، و أشرف أهلها على أصحابه ، ينظرون قتالهم
، و ما بينك و بينه إ لا هذا الشعب ، فتصير من جنود الله .
قال الراعي : من لي بغنمي ؟ قال الذئب : أنا أرعاها حتى ترجع .
فأسلم الرجل إليه غنمه و مضى .
و ذكر قصته و إسلامه و وجوده النبي صلى الله عليه و سلم يقاتل ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : عد إلى غنمك تجدها بوفرها .
فوجدها كذلك ، و ذبح الذئب شاة منها .
و عن أهبان بن أوس : و أنه كان صاحب القصة ، و المحدث بها و مكلم الذئب .
و عن سلمة بن عمرو بن الأكوع : و أنه كان صاحب هذه القصة أيضاً ، و سبب إسلامه بمثل حديث أبي سعيد.
و قد روى ابن وهب مثل أنه جرى لأبي سفيان بن حرب ، و صفوان بن أمية ، مع
ذئب وجداه أخذ ظبياً ، فدخل الظبي الحرم ،فانصرف الذئب ، فعجبا من ذلك فقال
الذئب : أعجب من ذلك من ذلك محمد بنعبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة و
تدعونه إلى النار .
فقال أبو سفيان : و الات و العزى ، لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنها خلوفاً
و قد روي مثل هذا الخبر ، و أنه جرى لأبي جهل و أصحابه .
و عن عباس بن مرداس لما تعجب من كلام ضمار صنمه ، و إنشاده الشعر الذي ذكر
فيه النبي صلى الله عليه و سلم ، فإذا طائر سقط ، فقال : ياعباس ، أتعجب من
كلام ضمار ، و لا تعجب من نفسك ؟ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو
إلى الإسلام و أنت جالس ، فكان سبب إسلامه .
و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، عن رجل أتى النبي صلى الله عليه و
سلم و آمن به و هو على بعض حصون خيبر ، و كان في غنم يرعاها لهم ، فقال يا
رسول الله ، كيف بالغنم ؟
قال : احصب و جوهها ، فإن الله سيؤدي عنك أمانتك ، و يردها إلى أهلها .
ففعل ، فسارت شاة حتى دخلت إلى أهلها .
و عن أنس رضي الله عنه : دخل النبي صلى الله عليه و سلم حائط أنصاري و أبو
بكر و عمر و رجل من الأنصار رضي الله عنهم ،و في الحائط غنم فسجدت له .
فقال أبو بكر : نحن أحق بالسجود لك منها ... الحديث .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه :دخل النبي صلى الله عليه و سلم حائطاً ، فجاء بعير فسجد له ، و ذكر مثله .
و مثله في الجمل ، عن ثعلبة بن مالك ، و جابر بن عبد الله ، و يعلى بن مرة و
عبد الله بن جعفر ، قال : و كان لايدخل أحد الحائط إلا شد عليه الجمل ،
فلما دخل عليه النبي صلى الله عليه و سلم دعاه ، فوضع مشفره ، على الأرض ،
وبرك بين يديه ، فخطمه ، و قال : ما بين السماء و الأرض شيء إلا يعلم أني
رسول الله إلا عاصي الجن و الإنس .
و مثله عن عبد الله بن أبي أوفى .
و في خبر آخر في حديث الجمل أن النبي صلى الله عليه و سلم سألهم عن شأنه ، فاخبروه أنهم أرادوا ذبحه .
و في رواية أن النبي صلى الله عليه و سل م قال لهم : إنه شكا كثرة العمل ، و قلة العلف من صغره فقالوا : نعم .
و قد روي في قصة العضباء و كلامها النبي صلى الله عليه و سلم ، و تعريفها
له بنفسها ، و مبادرة العشب إليها في الرعي و تجنب الوحوش عنها ، و ندائهم
لها : إنك لمحمد ، و إنها لم تأكل و لم تشرب بعد موته حين ماتت .
ذكره الإسفرايني .
و روى ابن و هب ، أن حمام مكة أظلت النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتحها ، فدعا لها بالبركة .
و روي عن أنس ، و زيد بن أرقم ، و المغيرة بن شعبة ـ أن النبي صلى الله
عليه و سلم قال : ليلة الغار أمر الله شجرة ، فنبتت تجاه النبي صلى الله
عليه و سلم فسترته ، و أمر حمامتين فوقفتا بفم الغار .
و في حديث آخر : وأن العنكبوت نسجت على بابه ، فلما أتى الطالبون له ،
ورأوا ذلك قالوا : لو كان فيه أحد لم تكن الحمامتا ن ببابه و النبي صلى
الله عليه و سلم يسمع كلامهم ، فانصرفوا .
و عن عبد الله بن قرط : قرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بدنات خمس أو سبع ، لينحرها يوم عيد ، فازدلفن إليه بأيهن يبدأ .
و عن أم سلمة : كان النبي صلى الله عليه و سلم في صحراء ، فنادته ظبية ، يا
رسول الله ، قال : ما حاجتك ؟ قالت : صادني هذا الأعرابي ، و لي خفشان في
ذلك الجبل ، فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما و أرجع .
قال : و تفعلين ؟ قال : نعم . فأطلقها ، فذهبت و رجعت ، فأوثقها ، فانتبه
الأعرابي و قال : يا رسول الله ، ألك حاجة ؟ قال : تطلق هذه الظبية فأطلقها
فخرجت تعدو في الصحراء ، و تقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، و أنك رسول
الله .
و من هذا الباب ماروي من تسخير الأسد لسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه و
سلم ، إذا و جهه إلى معاذ باليمن فلقي الأسد فعرفه أنه مولى رسول الله صلى
الله عليه و سلم و معه كتابه ، فهمهم و تنحى عن الطريق ، و ذكر في منصرفه
مثل ذلك .
و في رواية أخرى عنه ـ أن سفينة تكسرت به ، فخرج إلى جزيرة فإذا الأسد ،
فقلت له : أنا مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فجعل يغمرني بمنكبه
حتى أقامني على الطريق .
و أخذ ـ عليه السلام ـ بأذن شاة لقوم من عند القيس بين إصبعه ، ثم خلاها فصار لها ميسماً ، و بقي ذلك الأثر و في نسلها بعد .
و ما روي عن إبراهيم بن حماد بسنده من كلام الحمار الذي أصابه بخيبر ، و قال له : اسمي يزيد بن شهاب . .
فسماه النبي صل ى الله عليه و سلم يعفورا ، و أنه كان يوجهه إلى دور أصحابه
، فيضرب عليهم الباب برأسه ، و يستدعيهم ، و أن النبي صلى الله عليه و سلم
لما مات تردى في بئر جزعاً و حزناً ، فمات .
و حديث الناقة التي شهدت عند النبي صلى الله عليه و سلم لصاحبها أنه ما سرقها ، و أنها ملكه .
و في العنز : التي أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم في عسكره ، و قد
أصابهم عطش ، و نزلوا على غير ماء ، و هم زهاء ثلاثمائة ، فحلبها رسول الله
صلى الله عليه و سلم ، فأروى الجند ، ثم قال لرافع :
[ أملكها و ما أراك ] فربطها فوجدها قد انطلقت .
رواه ابن قانع و غيره ، و فيه : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الذي جاء بها هو الذي ذهب بها [ 113 ] .
و قال : لفرسه ـ عليه السلام ـ و قد قام إلى الصلاة في بعض أسفاره : لا
تبرح ، بارك الله فيك حتى نفرغ من صلاتنا و جعله قبلته ، فما حرك عضواً حتى
صلى صلى الله عليه و سلم .
[ و يلتحق بهذا ما رواه الواقدي ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما وجه
رسله إلى الملوك ، فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد ، فأصبح كل رجل منهم
يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم ] .
و الحدي ث في هذا الباب كثير ، و قد جئنا منه بالمشهور ، و ما وقع في كتب الأئمة .
فصل
في إحياء الموتى و كلامهم ، و كلام الصبيان و المراضع
و شهادتهم لهم بالنبوة صلى الله عليه و سلم
حدثنا أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، القاضي أبو الوليد
محمد بن رشد ، و القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التميمي ، و غيره واحد
سماعاً و إذاناً ، قالوا : حدثنا أبو علي الحافظ قال : حدثنا أبو عمر
الحافظ ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن يحي ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا
ابن الأعرابي ...
حدثنا أبو داود ، حدثنا و هب بن بقية ، عن خالد ـ هو الطحان ، عن محمد بن
عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن يهودية أهدت للنبي
صلى الله عليه و سلم بخيبر شاة مصلية سمتها ، فأكل رسول الله صلى الله عليه
و سلم منها ، و أكل القوم ، فقال : ارفعوا أيديكم ، فإنما أخبرتني أنها
مسمومة .
فمات بشر بن البراء .
و قال لليهودية : ما حملك على ما صنعت ؟ قالت : إن كنت نبياً لم يضرك الذي صنعت ، و إن كنت ملكاً أرحت الناس منك .
قال : فأمربها فقتلت .
و قد روى هذا الحديث أنس ، و فيه : قالت : أردت قتلك . فقال : ماكان الله ليسلطك على ذلك .
فقالوا : نقتلها ؟
قال : لا
و كذالك رو ى عن أبي هريرة ـ من غير وهب ، قال : فما عرض لها .
و رواه أيضاً جابر بن عبد الله ، و فيه : أخبرني هذه الذراع قال : و لم يعاقبها .
و في رواية الحسن : أن فخذها تكلمني أنها مسمومة .
و في رواية أبي سلمة بن عبدالرحمن قالت : إني مسمومة .
و كذلك ذكر الخبر ابن إسحاق ، و قال فيه : فتجاوزعنها .
و في الحديث الآخر ، عن أنس ، قال : فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و في حديث أبي هريرة ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ـ في و جعه
الذي مات فيه : ما زالت أكلة خيبر تعادني ، فالآن أوان قطعت أبهري .
و حكى ابن إسحاق : إن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة .
و قال ابن سحنون : أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل اليهودية التي سمته .
و قد ذكرنا اختلاف الروايات في ذلك عن أبي هريرة ، و أنس ، و جابر .
و في رواية ابن عباس رضي الله عنهما ـ أنه دفعها لأولياء بشر بن البراء فقتلوها .
و كذلك قد اختلف في قتله للذي سحره ، قال الواقدي : و عفوه عنه أثبت عندها .
و روى الحديث البزار ، عن أبي سعيد ، فذكر مثله ، إلا أنه قال في آخره :
فبسط يده و قال : كلوا بسم الله ، فأكلنا ، و ذكر اسم الله ، فلم تضر منا
أحداً .
قال القاضي أبو الفيصل : و قد خرج حديث الشاة المسمومة أهل الصحيح ، و خرجه الأئمة ، و هو حديث مشهور .
و اختلف أئمة النظر في هذا الباب ، فمن قائل يقول : هو كلام يخلقه الله
تعالى في الشاة [114] و يسمعها منها دون تغيير أشكالها ، و نقلهاعن هيئتها .

وهو مذهب الشيخ أبي الحسن ، و القاضي أبي بكر رحمهما الله .
و آخرون ذهبوا إلى إيجاد الحياة بها ، ثم الكلام بعده .
و حكي هذا أيضاً عن شيخنا أبي الحسن ، و كل محتمل ، و الله أعلم ، إذ لم
نجعل الحياة شرطاً لوجود الحروف و الأصوات ، إذ لا يستحيل و جودها مع عدم
الحياة بمجردها .
فأما إذا كانت عبارة عن الكلام النفسي فلا بد من شرط الحياة لها ، إذ لا
يوجد كلام النفس إلا من حي ، خلافاً للجبائي من بين سائر متكلمي الفرق في
إحالة و جود الكلام اللفظي و الحروف و الأصوات إلا من حي مركب على تركيب من
يصح منه النطق بالحروف و الأصوات .
و التزم ذلك في الحصى ، و الجذع ، و الذراع ، و قال : إن الله خلق فيها
حياة ، و خرق لها فماً ـ ولساناً ، وآلة أمكنها بها من الكلام .
و هذا لو كان لكان نقله و التهمم به آكد من التهمم بنقل تسبيحه أو حنينه ، و
لم ينقل أحد من أهل السير و الرواية شيئاً من ذلك ، فدل على سقوط دعواه ،
مع أنه لا ضرورة إليه في النظر ، و الموفق الله .
و روى وكيع ـ رفعه عن فهد بن عطية ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بصبي قد شب لم يتكلم قط ، فقال : من أنا ؟ فقال رسول الله .
و روي عن معرض بن معيقيب: رأيت من النبي صلى الله عليه و سلم عجباً ، جيء بصبي يوم ولد ... فذكر مثله .
و هو حديث مبارك اليمامة ، و يعرف بحديث شاصونه : اسم راوية ، و فيه : فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : صدقت بارك الله فيك .
ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شب ، فكان يسمى مبارك اليمامة .
و كانت هذه القصة بمكة في حجة الوداع .
و عن الحسن : أتى رجل النبي صلى الله عليه و سلم ، فذكر أنه طرح بنية له في
وادي كذا ، فانطلق معه إلى الوادي ، و ناداها باسمها : يا فلانة ، أجيبي
نإذن الله فخرجت و هي تقول : لبييك و سعديك ! فقال لها : إن أبويك قد أسلما
، فإن أحببت أن أدرك عليهما ؟ قالت : لا حاجة لي فيهما ، و جدت الله خيرا ً
منهما .
و عن أنس أن شاباً من الأنصار توفي و له أم عجوز عمياء ، فسجيناه ، و
عزيناه ، فقالت : مات ابني ؟ قلنا : نعم . قالت : اللهم إن كنت تعلم أني
هاجرت إليك و إلى نبيك رجاء أن تعينني على كل شدة فلا تحملن علي هذه
المصيبة .
فما برحنا أن كشف الثوب عن وجهه ، فطعم و طعمنا .
و روي عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري : كنت فيمن دفن ثابت بن قيس بن
شماس ، و كان قتل باليمامة ، فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول : محمد رسول
الله ، أبو بكر الصديق ، عمر الشهيد ، عثمان البر الرحيم ، فنظرنا فإذا هو
ميت .
و ذكر عن النعمان بن بشير أن زيد بن خارجة خر ميتاً في بعض أزقة المدينة ،
فرفع وسجي إذ سمعوه بين العشاءين و النساء يصرخن حوله يقول : أنصتوا
،أنصتوا ، فحسر عن و جهه ، فقال : محمد [115] رسول الله ، النبي الأمي ، و
خاتم النبيين ، كان ذلك في الكتاب الأول ، ثم قال صدق ، صدق ، و ذكر أبا
بكر ، وعمر ، و عثمان ، ثم قال : السلام عليك يا رسول الله ،ورحمة الله و
بركاته ، ثم عاد ميتاً كما كان .
فصل
في إبراء المرضى و ذوي العاهات
أخبرنا أبو الحسن علي بن مشرف فيما أجازنيه و قرأته على غيره ، قال : حدثنا
أبو إسحاق الحبال ، قال : حدثنا أبو محمد بن النحاس ، حدثنا ابن الورد ،
عن البرقي ، عن ابن هشام ، عن زباد البكائي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثنا ابن
شهاب ، و عاصم بن عمر بن قتادة و جماعة ذكرهم بقضية أحد بطولها ، قال : و
قالوا : قال سعد بن أبي وقاص : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليناولني
السهم لا نصل له ، فيقول : ارم به و قد رمى رسول الله صلى الله عليه و سلم
يومئذ عن قوسه حتى اندقت، و أصيب يومئذ عين قتادة ـ يعني ابن النعمان ـ حتى
و قعت على و جنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكانت أحسن
عينيه .
و روى قصة قتادة عاصم بن عمر بن قتادة ، و يزيد بن عياض بن عمر بن قتادة .
و رواها أبو سعيد الخدري عن قتادة .
و بصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قرد ، قال : فما ضرب علي و لا قاح .
و روى النسائي ، عن عثمان بن حنيف ـ أن أعمى قال : يا رسول الله ، ادعو الله أن يكشف لي عن بصري .
قال : [ فانطلق فتوضأ : ثم صلى ركعتين ، ثم قل ، اللهم إني أسألك و أتوجه
إليك بنبي محمد نبي الرحمة ، يا محمد ، إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن
بصري ، اللهم شفعه في ] .
قال : فرجع و قد كشف الله عن بصره .
و روي أن ابن الأسنة أصابه استسقاء ، فبعث إلى النبي صلى الله عليه و سلم ،
فأخذ بيده حثوة من الأرض ، فتفل عليها ، ثم أعطاها رسوله ، فأخذها متعجباً
، يرى أنه قد هزىء به ، فأتاه بها ، و هو على شفا ، فشربها ، فشفاه الله .

و ذكر العقيلي عن حبيب بن فديك ، و يقال فريك ـ أن أباه ابيضت عيناه ، فكان
لا يبصر بهما شيئاً ، فنفث رسول الله صلى الله عليه و سلم في عينيه ،
فأبصر ، فرأيته يدخل الخيط في الإبرة ، و هو ابن ثمانين .
و رمي كلثوم بن الحصين يوم أحد في نحره ، فبصق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فبرأ .
و تفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تمد .
و تفل في عيني علي يوم خيبر ، و كان رمداً ، فأصبح بارئاً .
و نفث علي ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت ، و في رجل زيد بن معاذ
حين أصابها السيف إلى الكعب ، حين قتل ابن الأشرف ، فبرئت . و على ساق علي
ابن الحكم يوم الخندق إذا انكسرت ، فبرىء مكانه ، و ما نزل عن فرسه .
و اشتكى علي بن أبي طالب ، فجعل يدعو ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [
اشفه ، أو عافه ] ثم ضرب برجله ، فما اشتكى ذلك الوجع بعد .
و قطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء [ 116 ] ، فجاء يحمل يده ، فبصق
عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ألصقها فلصقت . رواه ابن وهب .
و من روايته أيضاً أن خبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله صلى الله
عليه و سلم بضربة على عاتقه حتى مال شقه ، فرده رسول الله صلى الله عليه و
سلم ، و نفث عليه حتى صح .
و أتته امرأة من خثعم ، معها صبي به بلاء لا يتكلم ، فأتي بماء فمضمض فاه ،
و غسل يديه ، ثم أعطاها إياه ، و أمرها بسقيه و مسه به ، فبرأ الغلام ، و
عقل عقلاً يفضل عقول الناس .
و عن ابن عباس : جاءت امرأة بابن لها به جنون ، فمسح صره ، فثع ثعة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود ، فشفي .
و انكفأت القدر على ذراع محمد بن حاطب و هو طفل ، فسمح عليه و دعا له ، و تفل فيه فبرأ لحينه .
و كانت في كف شرحبيل الجعفي سلعة تمنعه القبض على السيف و عنان الدابة ،
فشكاها للنبي صلى الله عليه و سلم ، فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها ، و لم
يبق ى لها أثر .
و سألته جارية طعاماً ، و هو يأكل ، فناولها من بين يديه ، و كانت قليلة
الحياء ، فقالت إنما أريد من الذي في فيك ، فناولها ما في فيه ، و لم يكن
يسأل شيئاً فيمنعه .
فلما استقر في جوفها ألقي عليها من الحياء ما لم تكن امرأة بالمدينة أشد حياء منها .

descriptionكتاب الشفاء .. كامل Emptykhalim2013@ya.ru

more_horiz
نبض الدعوة كتب:


بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة المؤلف
مقام عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة؛ فهم حملة الشريعة وعلومها
التي يبثُّونها في صدور الرجال بالتلقين والتأليف، ذَبُّوا عن الشريعة
بسيوف علومهم؛ فبقيت علومهم خالدة تالدة إلى الأبد، وكم من ولي لله كان
معهم وبعدهم بكثير، كان لهم تلاميذ وأوراد، وانقطعت تلك الأوراد وباد
المريدون بمرور الأزمان، وأئمة العلم ما زالوا بعلومهم كأنهم أحياء.." هذا
الكلام النفيس من بيان أبي عبد الله محمد الأمين في كتابه "المجد الطارف
والتالد"، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره الرفيع بين علماء الإسلام،
وليس في كلام الشيخ مبالغة أو تزويد؛ فقد حقق القاضي عياض شهرة واسعة حتى
قيل: لولا عياض لما عُرف المغرب، وكأنهم يعنون –في جملة ما يعنون- أنه أول
من لفت نظر علماء المشرق إلى علماء المغرب حتى أواسط القرن السادس الهجري.
المولد والنشأة
يعود نسب القاضي "عياض بن موسى اليحصبي" إلى إحدى قبائل اليمن العربية
القحطانية، وكان أسلافه قد نزلوا مدينة "بسطة" الأندلسية من نواحي "غرناطة"
واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة "فاس" المغربية، ثم غادرها جده
"عمرون" إلى مدينة "سبتة" حوالي سنة (373 هـ = 893م)، واشتهرت أسرته
بـ"سبتة"؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه المدينة مولد عياض في
(15 من شعبان 476هـ = 28 من ديسمبر 1083م)، ونشأ بها وتعلم، وتتلمذ على
شيوخها.
الرحلة في طلب العلم
رحل عياض إلى الأندلس سنة (507هـ = 1113م) طلبًا لسماع الحديث وتحقيق
الروايات، وطاف بحواضر الأندلس التي كانت تفخر بشيوخها وأعلامها في الفقه
والحديث؛ فنزل قرطبة أول ما نزل، وأخذ عن شيوخها المعروفين كـ"ابن عتاب"،
و"ابن الحاج"، و"ابن رشد"، و"أبي الحسين بن سراج" وغيرهم، ثم رحل إلى
"مرسية" سنة (508هـ = 1114م)، والتقى بأبي علي الحسين بن محمد الصدفي، وكان
حافظًا متقنًا حجة في عصره، فلازمه، وسمع عليه الصحيحين البخاري ومسلم،
وأجازه بجميع مروياته.
اكتفى عياض بما حصله في رحلته إلى الأندلس، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق
مثلما يفعل غيره من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية
في الأندلس وظهور عدد كبير من علمائها في ميادين الثقافة العربية
والإسلامية، يناظرون في سعة علمهم ونبوغهم علماء المشرق المعروفين.
عاد عياض إلى "سبتة" غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار،
والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، وكانت عودته في (7 من جمادى الآخرة
508هـ = 9 من أكتوبر 1114م)، وجلس للتدريس وهو في الثانية والثلاثين من
عمره، ثم تقلد منصب القضاء في "سبتة" سنة (515 هـ = 1121م) وظل في منصبه
ستة عشر عامًا، كان موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ثم تولى قضاء "غرناطة"
سنة (531هـ = 1136م) وأقام بها مدة، ثم عاد إلى "سبتة" مرة أخرى ليتولى
قضاءها سنة (539هـ = 1144م).
القاضي عياض محدثًا
كانت حياة القاضي عياض موزعة بين القضاء والإقراء والتأليف، غير أن الذي
أذاع شهرته، وخلَّد ذكره هو مصنفاته التي بوَّأَتْه مكانة رفيعة بين كبار
الأئمة في تاريخ الإسلام، وحسبك مؤلفاته التي تشهد على سعة العلم وإتقان
الحفظ، وجودة الفكر، والتبحر في فنون مختلفة من العلم.
وكان القاضي عياض في علم الحديث الفذَّ في الحفظ والرواية والدراية، العارف
بطرقه، الحافظ لرجاله، البصير بحالهم؛ ولكي ينال هذه المكانة المرموقة كان
سعيه الحثيث في سماع الحديث من رجاله المعروفين والرحلة في طلبه، حتى تحقق
له من علو الإسناد والضبط والإتقان ما لم يتحقق إلا للجهابذة من
المحدِّثين، وكان منهج عياض في الرواية يقوم على التحقيق والتدقيق وتوثيق
المتن، وهو يعد النقل والرواية الأصل في إثبات صحة الحديث، وتشدد في قضية
النقد لمتن الحديث ولفظه، وتأويل لفظه أو روايته بالمعنى، وما يجره ذلك من
أبواب الخلاف.
وطالب المحدث أن ينقل الحديث مثلما سمعه ورواه، وأنه إذا انتقد ما سمعه
فإنه يجب عليه إيراد ما سمعه مع التنبيه على ما فيه؛ أي أنه يروي الحديث
كما سمعه مع بيان ما يَعِنُّ له من تصويب فيه، دون قطع برأي يؤدي إلى
الجرأة على الحديث، ويفتح بابًا للتهجم قد يحمل صاحبه على التعبير والتصرف
في الحديث بالرأي.
وألَّف القاضي في شرح الحديث ثلاثة كتب هي: "مشارق الأنوار على صحاح
الآثار" وهو من أدَلِّ الكتب على سعة ثقافة عياض في علم الحديث وقدرته على
الضبط والفهم، والتنبيه على مواطن الخطأ والوهم والزلل والتصحيف، وقد ضبط
عياض في هذا الكتاب ما التبس أو أشكل من ألفاظ الحديث الذي ورد في الصحيحين
وموطأ مالك، وشرح ما غمض في الكتب الثلاثة من ألفاظ، وحرَّر ما وقع فيه
الاختلاف، أو تصرف فيه الرواة بالخطأ والتوهم في السند والمتن، ثم رتَّب
هذه الكلمات التي عرض لها على ترتيب حروف المعجم.
أما الكتابان الآخران فهما "إكمال المعلم" شرح فيه صحيح مسلم، و"بغية الرائد لما في حديث أم زرع من الفوائد".
وله في علم الحديث كتاب عظيم هو " الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع"
... فقيهًا
درس القاضي عياض على شيوخه بـ"سبتة" المدونة لابن سحنون، وهو مؤلَّف يدور
عليه الفقه المالكي، ويُعَدُّ مرجعَهُ الأول بلا منازع، وقد كُتبت عليه
الشروح والمختصرات والحواشي، غير أن المدونة لم تكن حسنة التبويب؛ حيث
تتداخل فيها المسائل المختلفة في الباب الواحد، وتعاني من عدم إحكام وضع
الآثار مع المسائل الفقهية.
وقد لاحظ القاضي عياض هذا عند دراسته "المدونة" على أكثر من شيخ؛ فنهض إلى
عمل عظيم، فحرَّر رواياتها، وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك
في كتابه "التنبيهات المستنبَطة على الكتب المدونة والمختلطة" ولا شكَّ أن
قيام القاضي عياض بمثل هذا العمل يُعد خطوة مهمة في سبيل ضبط المذهب
المالكي وازدهاره.
القاضي عياض مؤرخًا
ودخل القاضي ميدان التاريخ من باب الفقه والحديث، فألَّف كتابه المعروف "
تدريب المدارك"، وهو يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي
ورواة "الموطأ" وعلمائه، وقد استهلَّ الكتاب ببيان فضل علم أهل المدينة،
ودافع عن نظرية المالكية في الأخذ بعمل أهل المدينة، باعتباره عندهم من
أصول التشريع، وحاول ترجيح مذهبه على سائر المذاهب، ثم شرع في الترجمة
للإمام مالك وأصحابه وتلاميذه، وهو يعتمد في كتابه على نظام الطبقات دون
اعتبار للترتيب الألفبائي؛ حيث أورد بعد ترجمة الإمام مالك ترجمة أصحابه،
ثم أتباعهم طبقة طبقة حتى وصل إلى شيوخه الذين عاصرهم وتلقى على أيديهم.
والتزم في طبقاته التوزيع الجغرافي لمن يترجم لهم، وخصص لكل بلد عنوانًا
يدرج تحته علماءه من المالكية؛ فخصص للمدينة ومصر والشام والعراق عناوين
خاصة بها، وإن كان ملتزما بنظام الطبقات.
وأفرد لعلمائه وشيوخه الذين التقى بهم في رحلته كتابه المعروف باسم
"الغُنية"، ترجم لهم فيه، وتناول حياتهم ومؤلفاتهم وما لهم من مكانة ومنزله
وتأثير، كما أفرد مكانا لشيخه القاضي أبي على الحسين الصدفي في كتابه
"المعجم" تعرض فيه لشيخه وأخباره وشيوخه، وكان "الصدفي" عالمًا عظيما اتسعت
مروياته، وصار حلقة وصل بين سلاسل الإسناد لعلماء المشرق والمغرب؛ لكثرة
ما قابل من العلماء، وروى عنهم، واستُجيز منهم.
... أديبًا
وكان القاضي أديبًا كبيرًا إلى جانب كونه محدثًا فقيهًا، له بيان قوي
وأسلوب بليغ، يشف عن ثقافة لغوية متمكنة وبصر بالعربية وفنونها، ولم يكن
ذلك غريبًا عليه؛ فقد كان حريصًا على دراسة كتب اللغة والأدب حرصه على تلقي
الحديث والفقه، فقرأ أمهات كتب الأدب، ورواها بالإسناد عن شيوخه مثلما فعل
مع كتب الحديث والآثار، فدرس "الكامل" للمبرد و"أدب الكاتب" لابن قتيبة،
و"إصلاح المنطق" لابن السكيت، و"ديوان الحماسة"، و"الأمالي" لأبي علي
القالي.
وكان لهذه الدراسة أثرها فيما كتب وأنشأ، وطبعت أسلوبه بجمال اللفظ، وإحكام العبارة، وقوة السبك، ودقة التعبير.
وللقاضي شعر دوَّنته الكتب التي ترجمت له، ويدور حول النسيب والتشوق إلى
زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، والمعروف أن حياته العلمية وانشغاله
بالقضاء صرفه عن أداء فريضة الحج، ومن شعره الذي يعبر عن شوقه ولوعته
الوجدانية ولهفته إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم):
بشراك بشراك فقد لاحت قبابهم
فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار
هذا المحصب، هذا الخيف خيف منى
هذي منازلهم هذي هي الدار
هذا الذي وخذت شوقًا له الإبل
هذا الحبيب الذي ما منه لي بدل
هذا الذي ما رأتْ عين ولا سمعت
أذْنٌ بأكرمَ من كَفِّهِ إن سألوا
ولا يمكن لأحد أن يغفل كتابه العظيم "الشفا بأحوال المصطفى" الذي تناول فيه
سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقصد من كتابه إحاطة الذات النبوية بكل
ما يليق بها من العصمة والتفرد والتميز عن سائر البشر، في الوقت الذي كانت
فيه آراء جانحة تخوض في مسألة النبوة، وتسوِّي بين العقل والوحي. ولما كان
النص الشرعي مصدرًا أساسيًا للمعرفة وأصلا لا يحتمل النزاع فيه متى ثبت
بالسند الصحيح، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) مصدر هذه المعرفة، فقد
انبرى القاضي عياض ببيان مقام النبوة وصيانته من كل ما لا يليق به.
وفاته
عاش القاضي عياض الشطر الأكبر من حياته في ظل دولة "المرابطين"، التي كانت
تدعم المذهب المالكي، وتكرم علماءه، وتوليهم مناصب القيادة والتوجيه، فلما
حلَّ بها الضعف ودبَّ فيها الوهن ظهرت دولة "الموحدين"، وقامت على أنقاض
المرابطين، وكانت دولة تقوم على أساس دعوة دينية، وتهدف إلى تحرير الفكر من
جمود الفقهاء والعودة إلى القرآن والسنة بدلاً من الانشغال بالفروع
الفقهية، وكان من الطبيعي أن يصطدم القاضي عياض -بتكوينه الثقافي ومذهبه
الفقهي- مع الدولة القادمة، بل قاد أهل "سبتة" للثورة عليها، لكنها لم
تفلح، واضطر القاضي أن يبايع زعيم "الموحدين" عبد المؤمن بن علي الكومي.
ولم تطُلْ به الحياة في عهد "الموحدين"، فتوفي في (9 من جمادى الآخرة 544 هـ = 14 من أكتوبر 1149م)
من مصادر الدراسة:
• ابن بشكوال: كتاب الصلة ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة ـ 1966م.
• القاضي عياض: ترتيب المدارك ـ تحقيق أحمد بكير محمود ـ مكتبة الحياة ـ بيروت ـ بدون تاريخ.
محمد الكتاني: القاضي عياض، الشخصية والدور الثقافي ـ مجلة الدارة ـ العدد الرابع ـ السنة السادسة عشر ـ 1411.


مقدمة الكتاب
اللهم صل على سيدنا  محمد و آله و سلم .
قال الفقيه القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي
رضي الله عنه   : الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى ، المختص بالملك الأعز
الأحمى ، الذي ليس دونه منتهى ، و لا وراءه مرمى ، الظاهر لا تخيلا و وهما ،
الباطن تقدسا لا عدماً ، وسع كل شيء رحمةً و علماً ، و أسبغ على أوليائه
نعما عماً ، و بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عرباً و عجماً ، و أزكاهم محتداً و
منمى ، و أرجحهم عقلاً و حلماً ، و أوفرهم علماً و فهماً ، و أقواهم
يقيناً و عزماً ، و أشدهم بهم رأفة و رحمى ، و زكاه روحاً و جسماً ، وحاشاه
عيباً و وصماً ، و آتاه حكمة و حكماً ، و فتح به أعيناً عمياً ، و قلوباً
غلفاً ، و آذاناً صماً ، فآمن به و عزره ، و نصره من جعل الله له في مغنم
السعادة قسماً ، و كذب به و صدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً ، و
من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى . صلى الله عليه وسلم صلاةً تنمو و
تنمى ، و على آله و سلم تسليماً كثيراً .
أما بعد أشرق الله قلبي و قلبك بأنوار اليقين ، و لطف لي و لك بما لطف
لأوليائه المتقين ، الذين شرفه م الله بنزل قدسه ، و أوحشهم من الخليقة
بأنسه ، و خصهم من معرفته و مشاهدة [ 2 ] عجائب ملكوته و آثار قدرته بما
ملأ قلوبهم حبرة ، و وله عقولهم في عظمته حيرة ، فجعلوا همهم به واحداً ، و
لم يروا في الدارين غيره مشاهدا ، فهم بمشاهدة جماله و جلاله يتنعمون ، و
بين آثار قدرته و عجائب عظمته يترددون ، و بالإنقطاع إليه و التوكل عليه
يتعززون ، لهجين بصادق قوله : قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( سورة
الأنعام / 6 : آية 91 ) .
فإنك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة
والسلام ، و ما يجب له من توقير و إكرام ، و ما حكم من لم يوف واجب عظيم
ذلك القدر ، أو قصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر ، و أن أجمع لك ما
لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال ، و أبينه بتنزيل صور و أمثال .
فاعلم _ أكرمك الله _ أنك حملتني من ذلك أمراً إمراً ، و أرهقتني فيما
ندبتني إليه عسراً ، و أرقيتني بما كلفتني مرتقى صعباً ، ملأ قلبي رعباً ،
فإن الكلام في ذلك يستدعي تقرير أصول و تحرير فصول ، و الكشف عن غوامض و
دقائق من علم الحقائق ، مما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم ويضاف إليه ، أو
يمتنع أو يجوز عليه ، و معرفة النبي و الرسول ، و الرسالة و النبوة ، و
المحبة و الخلة ، و خصائص هذه الدرجة العلية ، و ها هنا مهامه فيح تحار
فيها القطا ، و تقصر بها الخطا ، و مجاهل تضل فيها الأحلام إن لم تهتد بعلم
علم و نظر سديد ، و مداحض تزل[3] بها الأقدام ،إن لم تعتمد على توفيق من
الله وتأييد .
لكني لما رجوته لي و لك في هذا السؤال و الجواب من نوال و ثواب ، بتعريف
قدره الجسيم ، و خلقه العظيم ، و بيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق ،
و ما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق ، ليستيقن الذين
أوتوا الكتاب ، و يزداد الذين آمنوا إيماناً ، و لما أخذ الله تعالى على
الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس و لا يكتمونه .
و لما حدثنا به أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، قال : حدثنا
الحسين ابن محمد ، حدثنا أبو عمر النمري حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن ،
حدثنا أبو بكر محمد ابن بكر ، حدثنا سليمان بن الأشعث ، حدثنا موسى بن
اسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا علي بن الحكم ، عن عطاء ، عن أبي هريرة رضي
الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سئل عن علم فكتمه ألجمه
الله بلجام من نار يوم القيامة .
فبادرت إلى نكت مسفرة عن وجه الغرض ، مؤدياً من ذلك الحق المفترض ، اختلسها
على استعجال ، لما المرء بصدده من شغل البدن و البال ، بما طوقه من مقاليد
المحنة التي ابتلى بها ، فكادت تشغل عن كل فرض و نفل ، و ترد بعد حسن
التقويم إلى أسفل سفل ، و لو أراد الله بالإنسان خيراً لجعل شغله و همه كله
فيما يحمد غداً أو يذم محله ، فليس ثم سوى حضرة النعيم ، أو عذاب الجحيم ،
و لكان عليه بخويصته ، و استنفاذ مهجته و عمل صالح يستزيده ، و علم نافع
يفيده أو يستفيده .
جبر الله صدع قلوبنا ، و غفر عظيم ذنوبنا ، و جعل جميع [ 3 ] استعدادنا
لمعادنا ، و توفر دواعينا فيما ينجينا و يقربنا إليه زلفة ، و يحظينا بمنه و
كرمه و رحمته .
و لما نويت تقريبه ، و درجت تبويبه ، و مهدت تأصيله ، و خلصت تفصيله ، و
انتحيت حصره و تحصيله ، ترجمته ب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، و حصرت
الكلام فيه في أقسام أربعة :
القسم الأول : في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاً و فعلاً ، و توجه الكلام فيه في أربعة أبواب :
الباب الأول : في ثنائه تعالى عليه ، و اظهاره عظيم قدره لديه ، و فيه عشرة فصول .
الباب الثاني : في تكميله تعال ى له المحاسن خلقاً و خلقاً ، قرانه جميع
الفضائل الدينية و الدنيوية فيه نسقاً ، و فيه سبعة و عشرون فصلاً .
الباب الثالث : فيما ورد من صحيح الأخبار و مشهورها [ 4 ] بعظيم قدره عند
ربه و منزلته ، و ما خصه به في الدارين من كرامته ، و فيه اثنا عشر فصلاً .

الباب الرابع : فيما أظهره الله تعالى على يديه من الآيات و المعجزات ، و شرفه به من الخصائص و الكرامات ، و فيه ثلاثون فصـل .
القسم الثاني : فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام ، و يترتب القول فيه في أربعة أبواب :
الباب الأول : في فرض الإيمان به و وجوب طاعته و اتباع سنته ، و فيه خمسة فصول .
الباب الثاني : في لزوم محبته و منا صحته ، و فيه ستة فصول .
الباب الثالث : في تعظيم أمره و لزوم توقيره و بره ، و فيه سبعة فصول .
الباب الرابع : في حكم الصلاة عليه و التسليم و فرض ذلك و فضيلته ، و فيه عشرة فصول .
القسم الثالث : ـ فيما يستحيل في حقه ، و ما يجوز عليه شرعاً ، و ما يمتنع و يصح من الأمور البشرية أن يضاف إليه .
و هذا القسم ـ أكرمك الله ـ هو سر الكتاب ، و لباب ثمرة هذه الأبواب ، و ما
قبله له كالقواعد و التمهيدات و الدلائل على ما ن ورده فيه من النكت
البينات ، و هو الحاكم على ما بعده ، و المنجز من غرض هذا التأليف و عده ، و
عند التقصي لموعدته ، و التفصي عن عهدته ، يشرق صدر العدو اللعين ، و يشرق
قلب المؤمن باليقين ، و تملأ أنواره جوانح صدره و يقدر العاقل النبي حق
قدره . و يتحرر الكلام فيه في بابين [5 ] :
الباب الأول : فيما يختص بالأمور الدينية ، و يتشبث به القول في العصمة و فيه ستة عشر فصلاً .
الباب الثاني : في أحواله الدنيوية ، و ما يجوز طروءه عليه من الأعراض البشرية،و فيه تسعة فصول.
القسم الرابع : في تصرف وجوه الأحكام على من تنقصه أو سبه صلى الله عليه و سلم و ينقسم الكلام فيه في بابين :
الباب الأول : في بيان ما هو في حقه سب و نقص ، من تعريض ، أو نص ، و فيه عشرة فصول .
الباب الثاني : في حكم شانئه و مؤذيه و متنقصه و عقوبته ، و ذكر استتابته ، و الصلاة عليه و وراثته ، و فهي عشرة فصول .
و ختمناه بباب ثالث جعلناه تكملة لهذه المسألة [ 5 ] ، و وصلة للبابين
اللذين قبله في حكم من سب الله تعالى و رسله و ملائكته و كتبه ، و آل النبي
رسول الله صلى الله عليه وسلم و صحبه .
و اختصر الكلام فيه في خمسة فصول ، و بتمامها ينتجز الكتاب ، و تتم الأقسام
و الأبواب ، و تلوح في غرة الإيمان لمعة منيرة ، و في تاج التراجم درة
خطيرة ، تزيح كل لبس ، و توضح كل تخمين و حدس ، و تشفي صدور قوم مؤمنين ، و
تصدع بالحق ، و تعرض عن الجاهلين ، و با لله تعالى ـ لا إله سواه ـ أستعين
.

القسم الأول
في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولاًو فعلاً
قال [ الفقيه ] القاضي الإمام أبو الفضل رضي الله عنه :
لا خفاء على من مارس شيئاً من العلم ، أو خص بأدنى لمحة من فهم ، بتعظيم
الله تعالى قدر نبينا عليه [ الصلاة و ] السلام ، و خصوصه إياه بفضائل و
محاسن و مناقب لا تنضبط لزمام ، و تنويهه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة
و الأقلام .
فمنها ما صرح به الله تعالى في كتابه ، و نبه به على جليل نصابه ، و أثنى
عليه من أخلاقه و أدابه ، و حض العباد على التزامه ، و تقلد إيجابه ، فكان
جل جلاله هو الذي تفضل و أولى ، ثم طهر و زكى ، ثم مدح بذلك و أثنى ، ثم
أثاب عليه الجزاء الأوفى ، فله الفضل بدءاً [ 6 ] و عودا ً ، و الحمد أولى و
أخرى .
ومنها ماأبرزه للعيان من خلقه على أتم وجوه الكمال و الجلال ، و تخصيصه
بالمحاسن الجميلة و الأخلاق الحميدة ، و المذاهب الكريمة ، و الفضائل
العديدة ، و تأييده بالمعجزات الباهرة ، و البراهين الواضحة ، و الكرامات
البينة التي شاهدها من عاصره و رآها من أدركه ، و علمها علم يقين من جاء
بعده ، حتى انتهى علم ذلك إلينا ، و فاضت أنواره علينا ، صلى الله عليه
وسلم كثيراً .
حدثنا القاضي الشهيد أبو علي الحسين بن محمد الحافظ ، رحمه الله قراءة منى
عليه ، قال : أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ، و أبو الفضل أحمد بن
خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، قال : حدثنا أبو علي السنجي ،
قال : محمد بن أحمد ابن محبوب ، قال : حدثنا أبو عيسى بن سورة الحافظ ، قال
: حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن
أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسري به ملجماً
مسرجاً، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد
أكرم على الله منه . قال : فارفض عرقاً .


الباب الأول : في ثناء الله تعالى عليه و إظهاره عظيم قدره لديه

اعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى ، و عد
محاسنه ، و تعظيم أمره ، و تنويه قدره ، اعتمدنا منها على ما ظهر معناه ، و
بان فحواه ، و جمعنا ذلك في عشرة فصول :
الفصل الأول
فيما جاء من ذلك مجيء المدح و الثناء و تعداد المحاسن ، كقوله تعالى : لقد
جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [
سورة التوبة /9 : الآية 128 ] .
قال السمرقندي [ 6 ] : و قرأ بعضهم : من أنفسكم ـ بفتح الفاء . و قراءة الجمهور بالضم .
قال القاضي الإمام أبو الفضل ـ [ وفقه الله ] أعلم الله تعالى المؤمنين ،
أو العرب ، أو أهل مكة ، أو جميع الناس ، على اختلاف المفسرين : من المواجه
بهذا الخطاب أنه بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفونه ، و يتحققون مكانه ، و
يعلمونه صدقه و أمانته ، فلا يتهمونه بالكذب و ترك النصيحة لهم ، لكونه
منهم ، و أنه لم تكن في العرب قبيلة إلا و لها على رسول الله صلى الله عليه
و سلم ولادة أو قرابة ، [ و هو عند ابن عباس و غيره معنىقوله تعالى : إلا
المودة في القربى ] و ك ونه من أشرفهم ، و أرفعهم ، و أفضلهم ، على قراءة
الفتح ، و هذه نهاية المدح ، ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة ، و أثنى عليه
بمحامد كثيرة ، من حرصه على هدايتهم و رشدهم و إسلامهم ، و شدة ما يعنتهم و
يضر بهم في دنياهم و أخراهم ، و عزته و رأفته و رحمته بمؤمنهم .
قال بعضهم : أعطاه اسمين من أسمائه : رؤوف ، رحيم .
و مثله في الآية الأخرى : قوله تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث
فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن
كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ سورة آل عمران /3 ، الأية : 164]
و في الأية الأخرى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ سورة
الجمعة /62 : الأية 2 ] .
و قوله تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم
ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون [ سورة البقرة /2 :
الآية 151 ] .
و روي عن علي بن أبي طالب ، عنه صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : من
أنفسكم قال : نسباً و صهراً و حسباً ، ليس فى آبائي من لدن آدم سفاح ، كلنا
نكاح .
[ قال ابن الكلبي : كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحاً و لا شيئاً مما كان عليه الجاهلية .
و عن ابن عباس رضي الله عنه ـ في قوله تعالى : وتقلبك في الساجدين ـ قال : من نبي إلى نبي ، حتى أخرجك نبياً ] .
و قال جعفر ابن محمد : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرفهم ذلك ، لكي
يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من
جنسهم في الصورة ، و ألبسه من نعمته [ 7 ] الرأفة و الرحمة ، و أخرجه إلى
الخلق سفيراً صادقاً ، و جعل طاعته طاعته ، و موافقته ، فقال تعالى : من
يطع الرسول فقد أطاع الله .
و قال الله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ سورة الأنبياء / 21 : الآية 107 ] .
قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة
الرحمة ، فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن
أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما
إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله يقول : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ،
فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ، كما قال عليه السلام : حياتي خير لكم و
موتي خير لكم و كما قال عليه الصلاة و السلام : إذا أراد الله رحمة بأمة
قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً . و قال السمر قندي : رحمة
للعالمين : يعني للجن و الإنس .
و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، و رحمة للمنافق بالأمان من القتل ، و رحمة للكافر بتأخير العذاب .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو رحمة للمؤمنين و للكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .
و حكى أن النبى صلى الله عليه و سلم قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من
هذه الرحمة شىء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل
علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين [ سورة التكوير / 81 :
الأية 20 ـ 21 ] .
و روي عن جعفر بن محمد الصادق ـ فى قوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين .
أي بك ، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال الله تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا
شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله
لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم [ سورة النور /
24 : الأية 35 ] .
قال كعب ، و ابن جبير : المراد بالنور الثاني هنا محمد عليه السلام [7 ] . و قوله تعالى مثل نوره أي نور محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال سهل بن عبد الله : المعنى : الله هادي أهل السموات و الأرض ، ثم قال :
مثل نور محمد إذ كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا ، و أراد
بالمصباح قلبه ، و بالزجاجة صدره ، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان و
الحكمة يوقد من شجرة مباركة أي من نور إبراهيم . و ضرب المثل بالشجرة
المباركة .
و قوله : يكاد زيتها يضيء أي تكاد نبوة محمد صلى الله عليه و سلم تبين للناس قبل كلامه كهذا الزيت .
و قيل في هذه الآية غير هذا . و الله أعلم .
و قد سماه الله تعالى في القرآن في غير هذا الموضع نوراً و سراجاً منيراً ،
فقال تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ سورة المائدة / 5 : الآية
15 ] .
و قال تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ سورة الأحزاب / 33 : الأية 45 ـ 46 ] .
و من ه ذا قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض
ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت
فانصب * وإلى ربك فارغب [ سورة الشرح / 94 ] .
شرح : وسع . و المراد بالصدر هنا : القلب . قال ابن عباس : شرحه بالإسلام .
و قال سهل : بنور الرسالة .
و قال الحسن : ملأه حكماً و علماً .
و قيل : معناه ألم نطهر قلبك حتى لا يؤذيك الوسواس . و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك :
قيل : ما سلف من ذنبك ـ يعني قبل النبوة .
و قيل : أراد ثقل أيام الجاهلية .
و قيل : أراد ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها . حكاه الماوردي و السلمي .
و قيل : عصمناك ، و لولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك ، حكاه السمرقندي .
ورفعنا لك ذكرك قال يحيى بن آدم : بالنبوة . و قيل : إذا ذكرت ذكرت معي قول
: لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . و قيل : في الأذان [ 8 ] .
قال القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه
وسلم على عظيم نعمه لديه ، و شريف منزلته عنده ، و كرامته عليه ، بأن شرح
قلبه للإيمان و الهداية ، و وسعه لوعى العلم ، و حمل الحكمة ، و رفع عنه
ثقل أمور الجاهلية عليه ، و بغضه لسيرها ، و ما كانت عليه بظهور دينه على
الدين كله ، و حط عنه عهدة أعباء الرسالة و النبوة لتبليغه للناس ما نزل
إليهم ، و تنويهه بعظيم مكانه ، و جليل رتبته ، و رفعه و ذكره ، و قرانه مع
اسمه اسمه .
قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب و لا متشهد و لا
صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله .
و روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه
السلام ، فقال : إن ربي و ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله و
رسوله أعلم . قال : إذا ذكرت ذكرت معي .
قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكري معك .
و قال أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني .
و قال جعفر بن محمد الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية .      
و أشار بعضهم في ذلك إلى الشفاعة .
و من ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته و اسمه باسمه ، فقال تعالى :
أطيعوا الله والرسول . و آمنوا بالله ورسوله ، فجمع بينهما بواو العطف
المشركة .
و لا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .
حدثنا الشيخ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الحافظ فيما أجازنيه [ 8 ] ، و
قرأته على الثقة عنه ، قال : حدثنا أبو عمر النمري ، قال : حدثنا أبو محمد
بن عبد المؤمن ، حدثنا أبو بكر بن داسة : حدثنا أبو داود السجزي ، حدثنا
أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن
حذيفة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يقولن أحدكم
ما شاء الله و شاء فلان ، و لكن ما شاء الله ثم شاء فلان .
قال الخطابي : أرشدهم صلى الله عليه و سلم إلى الأدب في تقديم مشيئة الله
تعالى على مشيئة من سواه ، و اختارها بثم التي هي للنسق و التراخي ، بخلاف
الواو التي هي للإشتراك .
و مثله الحديث الآخر : إن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :
من يطع الله و رسوله فقد رشد ، و من يعصهما . فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم : بئس خطيب القوم أنت ! قم . أو قال : اذهب . قال أبو سليمان : كره
منه الجمع بين الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية .
و ذهب غيره إلى أنه كره له الوقوف على يعصهما .
و قول أبي سليمان أصح ، لما روي في الحديث الصحيح أنه قال : و من يعصهما فقد غوى ، و لم يذكر الوقوف على يعصهما .
و قد اختلف المفسرون و أصحاب المعاني في قوله تعالى : إن الله وملائكته
يصلون على النبي ، هل [ يصلون ] راجعة على الله تعالى و الملائكة أم لا ؟ .

فأجازه بعضهم ، و منعه آخرون ، لعلة التشريك ، و خصوا الضميربالملائكة ، و قدروا االآية : إن الله يصلي ، و ملائكته يصلون .
و قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك
طاعته ، فقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ سورة النساء / 4 :
الآية 80 ] .
و قد قال [ 9 ] تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر
لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله
لا يحب الكافرين [سورة آل عمران / 3 : الآية31 ـ 32 ] .
روي أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً كما
اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله تعالى : قل أطيعوا الله والرسول فقرن
طاعته بطاعته رغماً لهم . و قد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى في أم
الكتاب : اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ، فقال أبو
العالية ، و الحسن البصر ي : الصراط المستقيم هو رسول الله صلى الله عليه و
سلم و خيار أ هل بيته و أصحابه ، حكاه عنهما أبو الحسن المارودي و حكى مكي
عنهما نحوه ، و قال : هو رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحباه : أبو
بكر و عمر رضي الله عنهما .
و حكى أبو الليث السمرقندي مثله عن أبي العالية ، في قوله تعالى : صراط
الذين أنعمت عليهم ، قال : فبلغ ذلك الحسن ، فقال : صدق و الله و نصح .
و حكى الماوردي ذلك في تفسير : صراط الذين أنعمت عليهم عن عبد الرحمن بن زيد .
و حكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن بعضهم ، في تفسير قوله تعالى : فقد
استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ـ أنه محمد صلى الله
عليه و سلم .
و قيل : الإسلام .
و قيل : شهادة التوحيد .
و قال سهل في قوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ـ قال : نعمته بمحمد صلى الله عليه و سلم .
و قال تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاؤون
عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ( سورة الزمر / 39 : الأية 33 ، 34 ) .
أكثر المفسرين على أن الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه و سلم .
و قا ل بعضهم : و هو الذي صدق به .
و قرىء : صدق ـ بالتخفيف .
و قال غيرهم : الذي صدق به المؤمنون [ 9 ] .
و قيل أبو بكر . و قيل علي . غير هذا من الأقوال .
و عن مجاهد ـ في قوله تعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب ـ قال : بمحمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه .
الفصل الثاني
في وصفه تعالى له بالشهادة و ما يتعلق بها من الثناء و الكرامة
قال الله تعالى : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا
إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( سورة الأحزاب /33 : الآية 45 ـ 46 ) .
جمع الله تعالى في هذه الآية ضروباً من رتب الأثرة ، و جملة أوصاف من
المدحة فجعله شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة ، و هي من خصائصه صلى
الله عليه و سلم ، و مبشراً لأهل طاعته ، و نذيراً لأهل معصيته ، و داعياً
إلى توحيده و عبادته ، و سراجاً منيراً يهتدى به للحق .
حدثنا الشيخ أبو محمد بن عتاب رحمه الله ، حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد ،
حدثنا أبو الحسن القابسي ، حدثنا أبو زيد المروزي ، حدثنا أبو عبد الله
محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا
هلال ، عن عطاء ابن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت :
أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أجل ، و الله ، إنه
لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا
ومبشرا ونذيرا ، و حرزاً للأميين ، أنت عبدي و رسولي ، سميتك المتوكل ، ليس
بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق ، و لا يدفع بالسيئة السيئة ، و لكن
يعفو و يغفر ، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا :
لاإله إلا الله ، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً ، و قلوباً غلفاً.
و ذكر مثله عن عبد الله بن سلام [ 10 ] و كعب الأحبار ، و في بعض طرقه ، عن
ابن إسحاق : و لا صخب في الأسواق ، و لا متزين بالفحش ، و لا قوال للخنا ،
أسدده لكل جميل ، و أهب له كل خلق كريم ، و أجعل السكينة لباسه ، و البر
شعاره ، و التقوى ضميره ، و الحكمة معقوله ، و الصدق و الوفاء طبيعته ، و
العفو و المعروف خلقه ، و العدل سيرته ، و الحق شريعته ، و الهدى إمامه ، و
الإسلا م ملته ، و أحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، و أعلم به بعد
الجهالة ، و أرفع به بعد الخمالة ، و أسمي به بعد النكرة ، و أكثر به بعد
القلة ، و أغني به بعد العلة ، و أجمع به بعد الفرقة ، و أولف به بين قلوب
مختلفة ، و أهواء متشتتة ، و أمم متفرقة ، و أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس
. و في حديث آخر : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفته في
التوراة : عبدي أحمد المختار ، مولده بمكة ، و مهاج ره بالمدينة ، أو قال :
طيبة أمته الحمادون لله على كل حال . و قال تعالى الذين يتبعون الرسول
النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم
والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور
الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم
جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله
ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [سورة
الأعراف /7 : الآية 157ـ158 ] .
و قد قال تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب
لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل
على الله إن الله يحب المتوكلين [ سورة آل عمران / 3 : الآية 159 ] .
قال السمرقندي : ذكرهم الله منته أنه جعل رسوله رحيماً بالمؤمنين ، رؤوفاً
لين الجانب ، و لو كان فظاً خشناً في القول لتفرقوا من حوله ، و لكن جعله
الله تعالى سمحاً ، سهلاً طلقاً براً لطيفاً .
هكذا قاله الضحاك .
و قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة / 2 : الآية 143 ] .
قال أبو الحسن القابسي : أبان الله تعالى فضل نبينا صلى الله عليه و سلم ، و
فضل أمته بهذه الآية ، و في قوله في الآية [ 10 ] الأخرى : وفي هذا ليكون
الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس [ سورة الحج / 22 : الآية 78 ]
.
و كذلك قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ سورة النساء / 4 : الآية 41 ] .
قوله تعالى : وسطاً : أي عدلاً خياراً .
و معنى هذه الآية : و كما هديناكم فكذلك خصصناكم و فضلناكم بأن جعلناكم أمة
خياراً عدولاً ، لتشهدوا للأنبياء عليهم السلام على أممهم ، و يشهد لكم
الرسول بالصدق .
و قيل : إن الله جل جلاله إذا سأل الأنبياء : هل بلغتم . فيقولون : نعم .
فتقول أممهم : ما جاءنا من بشير و لا نذير ، فتشهد أمة محمد صلى الله عليه و
سلم للأ نبياء ، و يزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم .
و قيل : معنى الآية : إنكم حجة على كل من خالفكم ، و الرسول حجة عليكم . حكاه السمرقندي .
و قال الله تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم [ سورة يونس / 10 : الآية 2 ] .
قال قتادة ، و الحسن ، و زيد بن أسلم : قدم صدق : هو محمد صلى الله عليه و سلم ، يشفع لهم .
و عن الحسن أيضاً : هي مصيبتهم بنبيهم .
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، هو شفيع صدق عند ربهم .
و قال سهل بن عبد الله التستري : هي سابقة رحمة أودعها الله في محمد صلى الله عليه و سلم .
و قال محمد بن علي الترمذي : هو إمام الصادقين و الصديقين ، الشفيع المطاع ،
و السائل المجاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه عنه السلمي .
الفصل الثالث
فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة و المبرة
من ذلك قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ سورة التوبة / 9 : الآية 43 ].
قال أبو محمد مكي : قيل هذا إفتتاح كلام بمنزلة : أصلحك الله ، و أعزك الله .
و قال عون بن عبد الله : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .
و حكى السمرقندي عن بعضهم أن معناه : عافاك الله يا سليم القلب : لم أذنت لهم ؟ .
قال : و لو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، لم أذنت لهم لخيف عليه أن
ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام ، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى
سكن قلبه ، ثم قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره
من الكاذب .
و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب .
و من إكرامه إياه و بره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب . قال
نفطويه : ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم معاتب بهذه الآية ، و
حاشاه من ذلك ، بل كان مخيراً فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم
يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، و أنه لا حرج عليه في الأذن لهم .
قال القاضي أبو الفضل : يجب على المسلم المجاهد نفسه ، ا لرائض بزمام
الشريعة خلقه أن يتأدب بأدب القرآن في قوله و فعله ، و معاطاته و محاوراته ،
فهو عنصر المعارف الحقيقية ، و روضة الأداب الدينة و الدنيوية ، و ليتأمل
هذه الملاطفة العجيبة في السؤال من رب الأرباب ، المنعم على الكل ،
المستغني عن الجميع ، و يستثر ما فيها من الفوائد ، و كيف ابتدأ بالإكرام
قبل العتب ، و أنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب .
و قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 : الآية 74 ] .
قال بعض المتكلمين : عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد [ 11]
الزلات ، و عاتب نبياً عليه السلام قبل وقوعه ، ليكون بذلك أشد انتهاءً و
محافظة لشرائط المحبة ، و هذه غاية العناية .
ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه و خيف أن يركن إليه ،
ففي أثناء عتبه براءته ، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته .
و مثله قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون [ سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
قال علي رضي الله عنه : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا
نكذبك و لكن نكذب ما جئ ت به ، فأنزل الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كذبه قومه حزن ، فجاءه جبريل عليه
السلام فقال : ما يحزنك ؟ قال : كذبني قومي ! فقال : إنهم يعلمون أنك صادق ،
فأنزل الله تعالى الآية .
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ ، من تسليته تعالى له عليه السلام ، و
إلطافه به في القول ، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، و أنهم غير مكذبين له ،
معترفون بصدقه قولاً و إعتقاداً ، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ
الأمين ، فدفع بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب ، ثم جعل الذم لهم
بتسميتهم جاحدين ظالمين ، فقال تعالى : ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [
سورة الأنعام / 6 : الآية 33 ] .
فحاشاه من الوصم ، و طوقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم ، إذ الجحد
إنما يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم ظلما وعلوا [ سورة النمل / 17 : الآية 14 ] .
ثم عزاه و آنسه بما ذكره عمن قبله ، و وعده النصر بقوله تعالى : ولقد كذبت
رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات
الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ سورة الأنعام / 6 : الآية 34 ] .
فمن قرأ وإن يكذبوك بالتخفيف ، فمعناه : لا يجدونك كاذباً . و قال الفراء ، و الكسائي : لا يقولون إنك كاذب .
و قيل : لا يحتجون على كذبك ، و لا يثبتونه .
و من قرأ بالتشديد فمعناه : لا ينسبوك إلى الكذب . و قيل : لا يعتقدون كذبك .
و مما ذكر من خصائصه و بر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء
بأسمائهم ، فقال تعالى : يا آدم ، يا نوح ، يا موسى ، يا داود ، يا عيسى ،
يا زكريا ، يا يحيى . و لم يخاطب هو إلا : يأيها الرسول ، يأيها النبي ، يأ
يها المزمل ، يأيها المدثر .      
الفصل الرابع
في قسمه تعالى في عظيم قدره
قال الله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ سورة الحجر / 15 : الأية
72 ] . اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد
صلى الله عليه و سلم ، و أصله ضم العين ، من العمر ، و لكنها فتحت لكثرة
الإستعمال . و معناه : و بقائك يا محمد و قيل : و عيشك . و قيل : و حياتك .

و هذه نهاية التعظيم ، و غاية البر و التشريف . قال ابن عباس رضي الله
عنهما : ما خلق الله تعالى ، و ما ذرأ ، و ما برأ نفساً ـ أكرم عليه من
محمد صلى الله عليه و سلم ، و ما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره .
و قال أبو الجوزاء : ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه و سلم ، لأنه أكرم البرية عنده .
و قال تعالى : يس * والقرآن الحكيم .
اختلف المفسرون في معنى يس على أقوال ، فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي
صلى الله عليه و سلم أنه قال : لي عند ربي عشرة أسماء ذكر منها : طه و يس ـ
اسمان له .
و حكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن جعفر الصادق ـ أنه أراد : يا سيد ، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه و سلم [ 12 ] .
و عن ابن عباس : يس ـ يا إنسان ، أراد محمداً صلى الله عليه و سلم .
و قال : هو قسم ، و هو من أسماء الله تعالى .
و قال الزجاج : قيل معناه : يا محمد . و قيل : يا رجل . و قيل : يا إنسان .
و عن ابن الحنفية : يس : يا محمد .
و عن كعب : يس : قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السماء و الأرض بألفي
عام : يا محمد إنك لمن المرسلين . ثم قال : و القرآن الحكيم إنك لمن
المرسلين .
فإن قرر أنه بين أسمائه صلى الله عليه و سلم ، و ضح فيه . أنه قسم كان فيه
من التعظيم ما تقدم ، و يؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه ، و إن كان
بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته ، و الشهادة بهدايته :
أقسم الله تعالى باسمه و كتابه إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، و على
صراط مستقيم من إيمانه ، أي طريق لا اعوجاج فيه ، ولا عدول عن الحق .
قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرساله في كتاب إلا له ،
و فيه من تعظيمه و تمجيده ـ عن تأويل من قال : أنه يا سيد ـ ما فيه ، و قد
قال عليه السلام : أنا سيد ولد آدم ، و لا فخر .
و قال تعالى : لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد [ سورة البلد / 90 : الآية 2 ] .
قيل : لا أقسم به إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه ، حكاه مكي .
و قيل : [ لا ] زائدة ، أي أقسم به و أنت به يا محمد حلال . أو حل لك ما فعلت فيه على التفسيرين .
و المراد بالبلد عند هؤلاء مكة .
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد