حب الحبيب -صلى الله عليه
وسلم-
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد؛
فيقول الله -تعالى-: (إِنَّ
اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب:56),
وهذه
الصلاة, وذلكم السلام المأمور بهما في تلك الآية النيرة كلاهما
لازم من
لوازم محبته -صلى الله عليه وسلم-, وسبب موصل إليهما.
ولاشك أن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- مَعلَم
رئيسي من
معالم الدين, وعقد من عقود الإيمان, وقد أوجب الله علينا محبته,
وتوعد
على الإخلال بها فقال: (قُلْ إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ
وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ
بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24),
وكفى بتلك
الآية حضًا وتنبيهًا ودلالة وحجة على لزوم محبته -صلى الله
عليه وسلم-,
وعظيم خطرها.
ومما يشهد لذلك ذلكم المشهد الذي يأخذ فيه -صلى الله
عليه
وسلم- بيد عمر, فيقول له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء
إلا
من نفسي, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ
وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ
نَفْسِكَ),
فكان هذا التحول العجيب من عمر حيث قال لتوه: فأنت الآن
والله يا رسول
الله لأحب إلي من نفسي, فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(الآنَ يَا عُمَرُ) (رواه البخاري)،
وفي
الحديث: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى
أَكُونَ
أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ)
(متفق
عليه).
إن هذا الأمر -وهو أن تربو محبة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- عندنا على محبتنا لذواتنا وأنفسنا- أمر ليس بالهين, بل يحتاج
منا
إلى استعانة عالية بالله -جلَّ وعلا-, ومؤهلات خاصة جدًا, وأسباب
لزامًا
علينا أن نأخذ بها, حتى نرقى هذا المرتقى العالي, ونعرج من الثرى
إلى
الثريا.
وأول
هذه الأسباب التي تنتعش
وتنشط بها محبة الحبيب -صلى الله عليه وسلم-
في القلوب, وتدفع إلى نمائها:
- محبة الله -تعالى-: وذلك لأن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرع عن محبة
الله,
فكلما ازداد العبد حبًا لله ازداد حبًا لرسوله -عليه الصلاة
والسلام-.
وقد ذكر ابن القيم في "مدارج السالكين" جملة من
الأسباب
الجالبة لمحبة الله: كقراءة القرآن بالتدبر, ودوام ذكره -تعالى-
بالقلب
واللسان, ومشاهدة بره وإحسانه, ونعمه وإنعامه؛ فالإنسان أسير
الإحسان,
ومجالسة المحبين الصادقين, وآكد ذلك أن تعرف الله بأسمائه
وأوصافه،
يقول الحسن: "من عرف ربه أحبه".
- ومما تمتلئ به القلوب, وتفعم
محبة
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- معرفة شرفه, وما خصه الله به, ككونه
سيد
ولد آدم, وأنه صاحب
المقام
المحمود, والشفاعة العظمى, وأول شافع, وأول مشفع, وأنه قد غفر
له ما تقدم
من ذنبه وما تأخر, فما ازداد بذلك إلا ذلاً لله وانكسارًا,
وسعيًا في
مرضاته فضلاً عن قَسَم الله بحياته, فضلاً عن توقير الله له
حيث ناداه بأحب
أسمائه, وأسمى أوصافه فقال: (يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ)،
(يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ), بينما نادى غيره من
الأنبياء -عليهم الصلاة
والسلام- بأسمائهم؛ فجدير بمن تبوأ تلك المنزلة
العالية عند الله أن
تتوجه القلوب لمحبته, وتتشرف لنصرته.
- ومن الأسباب التي تمتلئ بها
القلوب
محبة لرسول الله كذلك دراسة شمائله, والوقوف على مكارم الأخلاق التي
بعث بها، وتجمعت
بجماعها في شخصه
-صلى الله عليه وسلم-, فكان أوسع الناس صدرًا, وأصدقهم
لهجة, وأكرمهم
عشيرة, وأوفاهم عهدًا وأوصلهم للرحم.
يقول عبد الله بن سلام: "لَمَّا قَدِمَ
رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ
إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
فَجِئْتُ فِي
النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ
رَسُولِ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ
بِوَجْهِ كَذَّابٍ" (رواه
الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
- ومن ذلك كذلك معرفة حرصه
وشفقته علينا, ورحمته بنا،
ونصحه لنا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ) (التوبة:128), وقال -جلَّ
وعلا-: (النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب:6),
فأنفسنا تدعونا إلى الهلاك, وهو يدعونا إلى النجاة, وفي
الحديث: (أنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ
تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ
وَمَنْ تَرَكَ مَالاً
فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ) (متفق
عليه), فأي نبل وأي
سخاوة
نفس هذه؟!
ومما تتلألأ به القلوب محبة
لرسول الله مطالعة ومشاهدة
الثمرات اليانعات التي يجتنيها محبو الحبيب -صلى
الله عليه وسلم-, وأول ذلك الظفر
بحلاوة ونداوة الإيمان, والتي تثمر
التلذذ بالطاعات, واستعذاب المشاق
والصعاب في سبيل الله، يقول -صلى
الله عليه وسلم-: (ثَلاَثٌ
مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ
بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ
إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ
لاَ يُحِبُّهُ
إِلاَّ لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ
بَعْدَ
أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي
النَّارِ)
(متفق عليه).
من ثمرات المحبة تلك البشرى التي
زفها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- لمحبيه،
وذلك يوم أن جاءه رجل, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى
السَّاعَةُ؟
قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ)
قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: (فَإِنَّكَ
مَعَ
مَنْ أَحْبَبْتَ) قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ
الإِسْلاَمِ
فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-:
(فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ). قَالَ
أَنَسٌ:
فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, وَأَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ
فَأَرْجُو
أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ, وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ. (متفق عليه),
ونقول نحن:
إنا لنرجو أن نكون صادقين في محبتنا لله ولرسوله وللصحابة
أجمعين, فنلحق
بهم, وإن لم نعمل كأعمالهم.
ومما لا يختلف عليه اثنان, ولا يتناطح فيه عنزان أن
المحب
لمن يحب مطيع, ولذلك لما صَدَق الناس كبارًا وصغارًا في محبتهم
للاعبي
المنتخب جعلوا يزحفون خلفهم قدر جهدهم, فإن أعياهم ذلك, وبعدت عليهم
الشقة, وفاتهم الوصول إلى ملاعب المباريات لمتابعة فعاليات الدورة الكروية
جعلوا يرقبون -وعن كثب- حركاتهم وسكناتهم, وماذا يأكل اللاعبون؟ وكيف
يشربون؟
ومتى ينامون؟ وتفاصيل التفاصيل, ويتابعون أولاً بأول وبنهم شديد
أخبارهم,
ثم يتفانون في تقليدهم ومحاكاتهم -ونحن كذلك مهما صدقت محبتنا
لمحمد
-صلى الله عليه وسلم- تابعناه, وتلمسنا خطاه التي سلكها على طريق
الإيمان
خطوة خطوة بداية من لا إله إلا الله, ومرورًا بالحياء, وانتهاء
بإماطة
الأذى عن الطريق-, فبذلك وبذلك فقط نبرهن, وندلل على صدق محبتنا,
وإلا
فما هي إلا مجرد دعوى تفتقر إلى بينة, وقد ادعى قوم محبة الله,
فابتلاهم
الله بهذه الآية: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31).
ومهما بحت أصواتنا بإعلان محبته -صلى الله عليه
وسلم-,
وأظهرنا التألم والتأسف على فوات رؤيته وصحبته, وتناثر وتكاثر منا
معسول
الكلام في التعبير عن عظيم مودته, فما هي إلا دعاوي كاذبة لمحبة
زائفة,
حتى نترجم تلك المحبة إلى اتباع السنة, ونحن الآن كلنا على المحك,
وعلى
قدر نصرتنا اليوم لدين الله, ولسنة رسوله, وذبنا عن ذلك على قدر
نصرتنا
لرسول الله, وذبنا عنه لو أدركناه حال حياته -صلى الله عليه وسلم-
سواء
بسواء.
وقد
ألزم الله علينا طاعته, وحذر
من مغبة عصيانه؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ) (الأنفال:20), وقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).
ولقد كان للصحابة وللصحابيات الأيادي البيضاء في
امتثال
أمره, ومن ذلك أن رسول الله لما نمى إلى سمعه أنه قد اختلط الرجال
بالنساء
في الطريق؛ قال للنساء: (اسْتَأْخِرْنَ
فَإِنَّهُ
لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ
بِحَافَاتِ
الطَّرِيقِ) فجعلت المرأة تلتصق بالجدار حتى أن ثوبها
ليتعلق
بالجدار من لصوقها به (رواه
أبو
داود، وحسنه الألباني).
وما أحوجنا في هذا الزمن الذي جفت فيه شجرة المحبة,
وتيبست
أوراقها إلى غيث ووابل يذهب الظمأ, وتبتل به العروق, وهذا الغيث
يأتينا
من خلال هذا البث الحي المباشر الذي يجسد محبة الأحبة -رضي الله
عنهم-
للحبيب -صلى الله عليه وسلم-, وكيف أنهم لما كانوا أعمق الأمة
إيمانًا
كان لهم من محبته أوفر الحظ, حتى فدوه بآبائهم وأبنائهم وأنفسهم,
وقاتلوا
دونه, وذبوا عن شريعته, وبذلوا في سبيل ذلك المهج والأرواح, حتى
رفرف
عَلَم التوحيد على ربوع العالمين, فإلى هذا البث عساه أن يشحذ منا
الهمم,
فنتأسى بهم في حبهم لحبيبهم, وذبهم عن دينهم.
وباكورة ذلك لأبي بكر ذلكم الرجل
العظيم الذي لما اكتملت وتمكنت محبة رسول الله من قلبه؛ أتت بالأعاجيب؛ تقول عائشة -رضي الله عنها-: "لما علم أبو بكر بأنه سيكون
رفيق
الهجرة بكى, وما كنت أعلم أن أحدًا يبكي من الفرح, حتى رأيت أبا بكر
باكيًا
يومئذ".
ولما دنا منهما
سراقة جاءت عيناه بالدمع, فسأله رسول
الله عن بكائه فقال: "والله ما
أبكي على نفسي, وإنما أبكي عليك".
ولما خطبهم رسول الله قائلاً: (إِنَّ
عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ
الدُّنْيَا
مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ)
(رواه البخاري),
بكى الأسيف قائلاً: نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا, فتعجب
الصحابة
لبكائه. إن رسول الله يخبر عن عبد خيره الله, فما بال أبي بكر
يبكي,
فما لبثوا أن علموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان هو
المخيَّر,
وهو المخبر عن نفسه, ولم يعقلها يومئذ إلا أبو بكر -رضي الله
عنه-.
أما عمر فقد ظل على العهد حتى
إذا
كان قبيل وفاته كان أهم ما يهمه هو أن يدفن بجوار حبيبه -صلى الله عليه
وسلم-, ولذلك قال
لابنه عبد
الله: "انطلق إلى عائشة فقل: يقرأ عليك عمر السلام, ولا تقل
أمير المؤمنين,
فإني لست اليوم للمؤمنين أمير, وقل: يستأذن عمر أن يدفن
بجوار صاحبيه,
فلما فعل قالت عائشة: كنت أريده لنفسي, ولأوثرنه به
اليوم على نفسي, فلما
أقبل عبد الله قال له عمر: ما لديك؟ قال: الذي
تحب يا أمير المؤمنين. أذنت.
قال: الحمد لله. ما كان من شيء أهم إلي من
ذلك", وهكذا تفعل المحبة
بأهلها.
أما ربيعة بن كعب الأسلمي, فقد
أتيحت
له فرصة العمر يوم أن قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سَلْ)؟ فقال دون تردد ولا تفكير:
أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: (أوَ
غَيْرَ
ذَلِكَ)؟ قُالْ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (فَأَعِنِّي
عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) (رواه مسلم).
ورابع بلغ فرط محبته للحبيب أن قال: يا رسول الله
إنك
لأحب إلى من نفسي, وإنك لأحب إلي من ولدي, وإني لأكون في البيت فأذكرك,
فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك, وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت
الجنة
رفعت مع النبيين, وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك, فلم يرد عليه
النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل جبريل بهذه الآية: (وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ
وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69).
وسعد بن الربيع بعث رسول الله زيدًا في طلبه يوم أحد
وقال له: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف
تجدك؟
فأدركه زيد في آخر رمق وبه سبعون ما بين ضربة ورمية وطعنة, فقال: يا
سعد
إن رسول الله يقرؤك السلام, ويقول لك: كيف تجدك؟ فقال سعد على رسول
الله,
وعليك السلام قل له: أجدني أجد ريح الجنة, وقل لقومي الأنصار: لا عذر
لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله, وفيكم عين تطرف, ثم فاضت نفسه -رضي
الله
عنه-, فأي محبة هذه التي اعتملت في قلوب القوم, حتى فجَّرت تلك
العواطف
الجياشة, وأثارت تلك المواقف الفريدة التي يعز أن تجد لها نظيرًا
-اللهم
إلا في عصر الصحابة عصر التألق الإيماني-.
وهذا مشهد إيماني آخر ينم عن مدى
تدفق مشاعر الحب لرسول الله في قلوب الأنصار-رضي الله عنهم-، إذ لما قسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغنائم يوم
حنين
في المؤلفة قلوبهم؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، ولم يعط الأنصار شيئًا
فكأن
بعضهم وجد في نفسه فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجمعهم ثم
حمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: (يَا
مَعْشَرَ
الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ
وَجَدْتُمُوهَا
فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ
اللَّهُ،
وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ, وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ
بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ)؟ قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ
وَأَفْضَلُ.
قَالَ: (أَلاَ تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ
الأَنْصَارِ)؟
قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ,
وَلِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟! قَالَ: (أَمَا
وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ:
أَتَيْتَنَا
مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ, وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ,
وَطَرِيداً
فَآوَيْنَاكَ, وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ, أَوَجَدْتُمْ فِي
أَنْفُسِكُم
يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا
تَأَلَّفْتُ
بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا, وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى
إِسْلاَمِكُمْ,
أَفَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ
النَّاسُ
بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ, وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي
رِحَالِكُمْ؟
فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ الْهِجْرَةُ
لَكُنْتُ
امْرَءاً مِنَ الأَنْصَارِ, وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا
وَسَلَكَتِ
الأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ, اللَّهُمَّ
ارْحَمِ الأَنْصَارَ, وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ, وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ
الأَنْصَارِ)
قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا
لِحَاهُمْ, وَقَالُوا:
رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ
انْصَرَفَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَفَرَّقُوا. (رواه أحمد، وصححه الألباني).
اللهم
صلِ على محمد ما مر النسيم على الأزهار, وصل
على محمد ما هطلت الأمطار,
وصل على محمد ما تعاقب الليل والنهار, وصل على
محمد ما فاحت الأشجار
بالأزهار والأنوار.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وسلم-
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد؛
فيقول الله -تعالى-: (إِنَّ
اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب:56),
وهذه
الصلاة, وذلكم السلام المأمور بهما في تلك الآية النيرة كلاهما
لازم من
لوازم محبته -صلى الله عليه وسلم-, وسبب موصل إليهما.
ولاشك أن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- مَعلَم
رئيسي من
معالم الدين, وعقد من عقود الإيمان, وقد أوجب الله علينا محبته,
وتوعد
على الإخلال بها فقال: (قُلْ إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ
وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ
بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24),
وكفى بتلك
الآية حضًا وتنبيهًا ودلالة وحجة على لزوم محبته -صلى الله
عليه وسلم-,
وعظيم خطرها.
ومما يشهد لذلك ذلكم المشهد الذي يأخذ فيه -صلى الله
عليه
وسلم- بيد عمر, فيقول له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء
إلا
من نفسي, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ
وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ
نَفْسِكَ),
فكان هذا التحول العجيب من عمر حيث قال لتوه: فأنت الآن
والله يا رسول
الله لأحب إلي من نفسي, فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(الآنَ يَا عُمَرُ) (رواه البخاري)،
وفي
الحديث: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى
أَكُونَ
أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ)
(متفق
عليه).
إن هذا الأمر -وهو أن تربو محبة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- عندنا على محبتنا لذواتنا وأنفسنا- أمر ليس بالهين, بل يحتاج
منا
إلى استعانة عالية بالله -جلَّ وعلا-, ومؤهلات خاصة جدًا, وأسباب
لزامًا
علينا أن نأخذ بها, حتى نرقى هذا المرتقى العالي, ونعرج من الثرى
إلى
الثريا.
وأول
هذه الأسباب التي تنتعش
وتنشط بها محبة الحبيب -صلى الله عليه وسلم-
في القلوب, وتدفع إلى نمائها:
- محبة الله -تعالى-: وذلك لأن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرع عن محبة
الله,
فكلما ازداد العبد حبًا لله ازداد حبًا لرسوله -عليه الصلاة
والسلام-.
وقد ذكر ابن القيم في "مدارج السالكين" جملة من
الأسباب
الجالبة لمحبة الله: كقراءة القرآن بالتدبر, ودوام ذكره -تعالى-
بالقلب
واللسان, ومشاهدة بره وإحسانه, ونعمه وإنعامه؛ فالإنسان أسير
الإحسان,
ومجالسة المحبين الصادقين, وآكد ذلك أن تعرف الله بأسمائه
وأوصافه،
يقول الحسن: "من عرف ربه أحبه".
- ومما تمتلئ به القلوب, وتفعم
محبة
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- معرفة شرفه, وما خصه الله به, ككونه
سيد
ولد آدم, وأنه صاحب
المقام
المحمود, والشفاعة العظمى, وأول شافع, وأول مشفع, وأنه قد غفر
له ما تقدم
من ذنبه وما تأخر, فما ازداد بذلك إلا ذلاً لله وانكسارًا,
وسعيًا في
مرضاته فضلاً عن قَسَم الله بحياته, فضلاً عن توقير الله له
حيث ناداه بأحب
أسمائه, وأسمى أوصافه فقال: (يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ)،
(يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ), بينما نادى غيره من
الأنبياء -عليهم الصلاة
والسلام- بأسمائهم؛ فجدير بمن تبوأ تلك المنزلة
العالية عند الله أن
تتوجه القلوب لمحبته, وتتشرف لنصرته.
- ومن الأسباب التي تمتلئ بها
القلوب
محبة لرسول الله كذلك دراسة شمائله, والوقوف على مكارم الأخلاق التي
بعث بها، وتجمعت
بجماعها في شخصه
-صلى الله عليه وسلم-, فكان أوسع الناس صدرًا, وأصدقهم
لهجة, وأكرمهم
عشيرة, وأوفاهم عهدًا وأوصلهم للرحم.
لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت
بديهته تأتيك بالخبر
بديهته تأتيك بالخبر
يقول عبد الله بن سلام: "لَمَّا قَدِمَ
رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ
إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
فَجِئْتُ فِي
النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ
رَسُولِ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ
بِوَجْهِ كَذَّابٍ" (رواه
الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
- ومن ذلك كذلك معرفة حرصه
وشفقته علينا, ورحمته بنا،
ونصحه لنا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ) (التوبة:128), وقال -جلَّ
وعلا-: (النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب:6),
فأنفسنا تدعونا إلى الهلاك, وهو يدعونا إلى النجاة, وفي
الحديث: (أنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ
تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ
وَمَنْ تَرَكَ مَالاً
فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ) (متفق
عليه), فأي نبل وأي
سخاوة
نفس هذه؟!
ومما تتلألأ به القلوب محبة
لرسول الله مطالعة ومشاهدة
الثمرات اليانعات التي يجتنيها محبو الحبيب -صلى
الله عليه وسلم-, وأول ذلك الظفر
بحلاوة ونداوة الإيمان, والتي تثمر
التلذذ بالطاعات, واستعذاب المشاق
والصعاب في سبيل الله، يقول -صلى
الله عليه وسلم-: (ثَلاَثٌ
مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ
بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ
إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ
لاَ يُحِبُّهُ
إِلاَّ لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ
بَعْدَ
أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي
النَّارِ)
(متفق عليه).
من ثمرات المحبة تلك البشرى التي
زفها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- لمحبيه،
وذلك يوم أن جاءه رجل, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى
السَّاعَةُ؟
قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ)
قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: (فَإِنَّكَ
مَعَ
مَنْ أَحْبَبْتَ) قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ
الإِسْلاَمِ
فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-:
(فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ). قَالَ
أَنَسٌ:
فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, وَأَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ
فَأَرْجُو
أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ, وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ. (متفق عليه),
ونقول نحن:
إنا لنرجو أن نكون صادقين في محبتنا لله ولرسوله وللصحابة
أجمعين, فنلحق
بهم, وإن لم نعمل كأعمالهم.
ومما لا يختلف عليه اثنان, ولا يتناطح فيه عنزان أن
المحب
لمن يحب مطيع, ولذلك لما صَدَق الناس كبارًا وصغارًا في محبتهم
للاعبي
المنتخب جعلوا يزحفون خلفهم قدر جهدهم, فإن أعياهم ذلك, وبعدت عليهم
الشقة, وفاتهم الوصول إلى ملاعب المباريات لمتابعة فعاليات الدورة الكروية
جعلوا يرقبون -وعن كثب- حركاتهم وسكناتهم, وماذا يأكل اللاعبون؟ وكيف
يشربون؟
ومتى ينامون؟ وتفاصيل التفاصيل, ويتابعون أولاً بأول وبنهم شديد
أخبارهم,
ثم يتفانون في تقليدهم ومحاكاتهم -ونحن كذلك مهما صدقت محبتنا
لمحمد
-صلى الله عليه وسلم- تابعناه, وتلمسنا خطاه التي سلكها على طريق
الإيمان
خطوة خطوة بداية من لا إله إلا الله, ومرورًا بالحياء, وانتهاء
بإماطة
الأذى عن الطريق-, فبذلك وبذلك فقط نبرهن, وندلل على صدق محبتنا,
وإلا
فما هي إلا مجرد دعوى تفتقر إلى بينة, وقد ادعى قوم محبة الله,
فابتلاهم
الله بهذه الآية: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31).
ومهما بحت أصواتنا بإعلان محبته -صلى الله عليه
وسلم-,
وأظهرنا التألم والتأسف على فوات رؤيته وصحبته, وتناثر وتكاثر منا
معسول
الكلام في التعبير عن عظيم مودته, فما هي إلا دعاوي كاذبة لمحبة
زائفة,
حتى نترجم تلك المحبة إلى اتباع السنة, ونحن الآن كلنا على المحك,
وعلى
قدر نصرتنا اليوم لدين الله, ولسنة رسوله, وذبنا عن ذلك على قدر
نصرتنا
لرسول الله, وذبنا عنه لو أدركناه حال حياته -صلى الله عليه وسلم-
سواء
بسواء.
وقد
ألزم الله علينا طاعته, وحذر
من مغبة عصيانه؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ) (الأنفال:20), وقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).
ولقد كان للصحابة وللصحابيات الأيادي البيضاء في
امتثال
أمره, ومن ذلك أن رسول الله لما نمى إلى سمعه أنه قد اختلط الرجال
بالنساء
في الطريق؛ قال للنساء: (اسْتَأْخِرْنَ
فَإِنَّهُ
لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ
بِحَافَاتِ
الطَّرِيقِ) فجعلت المرأة تلتصق بالجدار حتى أن ثوبها
ليتعلق
بالجدار من لصوقها به (رواه
أبو
داود، وحسنه الألباني).
وما أحوجنا في هذا الزمن الذي جفت فيه شجرة المحبة,
وتيبست
أوراقها إلى غيث ووابل يذهب الظمأ, وتبتل به العروق, وهذا الغيث
يأتينا
من خلال هذا البث الحي المباشر الذي يجسد محبة الأحبة -رضي الله
عنهم-
للحبيب -صلى الله عليه وسلم-, وكيف أنهم لما كانوا أعمق الأمة
إيمانًا
كان لهم من محبته أوفر الحظ, حتى فدوه بآبائهم وأبنائهم وأنفسهم,
وقاتلوا
دونه, وذبوا عن شريعته, وبذلوا في سبيل ذلك المهج والأرواح, حتى
رفرف
عَلَم التوحيد على ربوع العالمين, فإلى هذا البث عساه أن يشحذ منا
الهمم,
فنتأسى بهم في حبهم لحبيبهم, وذبهم عن دينهم.
وباكورة ذلك لأبي بكر ذلكم الرجل
العظيم الذي لما اكتملت وتمكنت محبة رسول الله من قلبه؛ أتت بالأعاجيب؛ تقول عائشة -رضي الله عنها-: "لما علم أبو بكر بأنه سيكون
رفيق
الهجرة بكى, وما كنت أعلم أن أحدًا يبكي من الفرح, حتى رأيت أبا بكر
باكيًا
يومئذ".
ولما دنا منهما
سراقة جاءت عيناه بالدمع, فسأله رسول
الله عن بكائه فقال: "والله ما
أبكي على نفسي, وإنما أبكي عليك".
ولما خطبهم رسول الله قائلاً: (إِنَّ
عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ
الدُّنْيَا
مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ)
(رواه البخاري),
بكى الأسيف قائلاً: نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا, فتعجب
الصحابة
لبكائه. إن رسول الله يخبر عن عبد خيره الله, فما بال أبي بكر
يبكي,
فما لبثوا أن علموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان هو
المخيَّر,
وهو المخبر عن نفسه, ولم يعقلها يومئذ إلا أبو بكر -رضي الله
عنه-.
أما عمر فقد ظل على العهد حتى
إذا
كان قبيل وفاته كان أهم ما يهمه هو أن يدفن بجوار حبيبه -صلى الله عليه
وسلم-, ولذلك قال
لابنه عبد
الله: "انطلق إلى عائشة فقل: يقرأ عليك عمر السلام, ولا تقل
أمير المؤمنين,
فإني لست اليوم للمؤمنين أمير, وقل: يستأذن عمر أن يدفن
بجوار صاحبيه,
فلما فعل قالت عائشة: كنت أريده لنفسي, ولأوثرنه به
اليوم على نفسي, فلما
أقبل عبد الله قال له عمر: ما لديك؟ قال: الذي
تحب يا أمير المؤمنين. أذنت.
قال: الحمد لله. ما كان من شيء أهم إلي من
ذلك", وهكذا تفعل المحبة
بأهلها.
أما ربيعة بن كعب الأسلمي, فقد
أتيحت
له فرصة العمر يوم أن قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سَلْ)؟ فقال دون تردد ولا تفكير:
أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: (أوَ
غَيْرَ
ذَلِكَ)؟ قُالْ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (فَأَعِنِّي
عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ) (رواه مسلم).
ورابع بلغ فرط محبته للحبيب أن قال: يا رسول الله
إنك
لأحب إلى من نفسي, وإنك لأحب إلي من ولدي, وإني لأكون في البيت فأذكرك,
فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك, وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت
الجنة
رفعت مع النبيين, وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك, فلم يرد عليه
النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل جبريل بهذه الآية: (وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ
وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69).
وسعد بن الربيع بعث رسول الله زيدًا في طلبه يوم أحد
وقال له: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف
تجدك؟
فأدركه زيد في آخر رمق وبه سبعون ما بين ضربة ورمية وطعنة, فقال: يا
سعد
إن رسول الله يقرؤك السلام, ويقول لك: كيف تجدك؟ فقال سعد على رسول
الله,
وعليك السلام قل له: أجدني أجد ريح الجنة, وقل لقومي الأنصار: لا عذر
لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله, وفيكم عين تطرف, ثم فاضت نفسه -رضي
الله
عنه-, فأي محبة هذه التي اعتملت في قلوب القوم, حتى فجَّرت تلك
العواطف
الجياشة, وأثارت تلك المواقف الفريدة التي يعز أن تجد لها نظيرًا
-اللهم
إلا في عصر الصحابة عصر التألق الإيماني-.
وهذا مشهد إيماني آخر ينم عن مدى
تدفق مشاعر الحب لرسول الله في قلوب الأنصار-رضي الله عنهم-، إذ لما قسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغنائم يوم
حنين
في المؤلفة قلوبهم؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، ولم يعط الأنصار شيئًا
فكأن
بعضهم وجد في نفسه فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجمعهم ثم
حمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: (يَا
مَعْشَرَ
الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ
وَجَدْتُمُوهَا
فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ
اللَّهُ،
وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ, وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ
بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ)؟ قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ
وَأَفْضَلُ.
قَالَ: (أَلاَ تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ
الأَنْصَارِ)؟
قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ,
وَلِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟! قَالَ: (أَمَا
وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ:
أَتَيْتَنَا
مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ, وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ,
وَطَرِيداً
فَآوَيْنَاكَ, وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ, أَوَجَدْتُمْ فِي
أَنْفُسِكُم
يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا
تَأَلَّفْتُ
بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا, وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى
إِسْلاَمِكُمْ,
أَفَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ
النَّاسُ
بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ, وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي
رِحَالِكُمْ؟
فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ الْهِجْرَةُ
لَكُنْتُ
امْرَءاً مِنَ الأَنْصَارِ, وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا
وَسَلَكَتِ
الأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ, اللَّهُمَّ
ارْحَمِ الأَنْصَارَ, وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ, وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ
الأَنْصَارِ)
قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا
لِحَاهُمْ, وَقَالُوا:
رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ
انْصَرَفَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَفَرَّقُوا. (رواه أحمد، وصححه الألباني).
اللهم
صلِ على محمد ما مر النسيم على الأزهار, وصل
على محمد ما هطلت الأمطار,
وصل على محمد ما تعاقب الليل والنهار, وصل على
محمد ما فاحت الأشجار
بالأزهار والأنوار.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.